بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد الهادي الأمين وعلى آله الميامين واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدّين.
قرأتُ يومَ أمس ما خطّته اليد المرحومة لمعلّم الأعلام الشّيخ محمّد بن الشّيخ أحمد العصفور البحراني -والد علّامة البحرين وفقيهها الأبرز الشّيخ حسين- في رسالة وُسِمت برسالة الاستئجار وهي في حكم أجرة الخطيب في المجالس الحسينيّة حقّقها الأخ الفاضل العالم العامل الحبيب النّجيب الشّيخ حسن بن علي السعيد حرسه الله وأعلى مناره وقد وجدتُ فيها عدم الوفاء بالمطلوب المراد والغاية المرجوّة فسألني والدي الأعز المتفاني في خدمة العلم ولاسيما النّتاج البحراني سماحة السيّد المكرّم محمّد علي العلوي عن الكتاب فأشرت إلى أنّه لم يكن شافيًا محقّقًا لما أراده منه مصنّفه عليه الرّحمة، ثمّ أحببت أن أوسّع الجواب في مناقشة لما لاحظته على الكتاب جوابًا لسؤال والدي حفظه الله.
وأنوّه إلى أنّ هذه المناقشة تتعلّق بنقد أدلّة المصنّف -طاب رمسه- لا للحكم في المسألة، فقد نتّفق في نتيجته إلّا أنّ الطّريق لها مختلف، وذلك موكول لبحثٍ مستقل لسنا بصدده.
فأقول معتذرًا منه: -رحمه الله- على هذا التّجاسر:
الملاحظة الأولى:
تطرّق -أعلى الله مقامه- لردّ دعوى، حاصلها: أنّ أخذ الأجرة ينافي خلوص النّيّة والتقرّب لله. فردّها بدليلين، الأوّل: فعل المعصوم بإعطاء الأجرة للنّاعي.
الثّاني: وجود نظائر في الشّريعة لهذا الأمر مثل الاستئجار للصلاة وقراءة القرآن.
أمّا الدّليل الأول فغير ظاهر من الأخبار الواردة في إنشاد الشّعر ورثاء المعصومين إلّا العطاء والصّلة، وهي مختلفة تماما عن الأجرة بل لا تمسّها لا من قريب ولا من بعيد، وليتأكّد ذلك أذكر ما وقفت عليه من الأخبار في هذا الشأن فانظر في المطلوب:
1- الشيخ المفيد في الإختصاص عن الحسين بن أحمد بن سلمة اللؤلؤي عن محمد بن المثنى عن أبيه عن عثمان بن يزيد عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: "دخلت عليه فشكوت اليه الحاجة، فقال عليه السّلام: يا جابر ما عندنا درهم.
قال: فلم ألبث أنْ دخل عليه الكميت، فقال له: جعلت فداك، أرأيت أن تأذن لي في أن أنشدك قصيدة؟
فقال عليه السّلام: أنشدها. فأنشد قصيدة. فقال عليه السّلام يا غلام أخرج من ذلك البيت بدرة[1] فادفعها إلى الكميت، فأخرج الغلام بدرة فدفعها إليه.
فقال له: جعلت فداك أرأيت أن تأذن لي أنْ أنشدك أخرى؟ فقال عليه السّلام أنشد، فأنشده قصيدة أخرى، فقال عليه السّلام: يا غلام أخرج من ذلك البيت بدرة فادفعها إلى الكميت، فأخرج الغلام بدرة فدفعها إليه.
فقال له جعلت فداك أرأيت أن تأذن لي ان أنشدك ثالثة فقال له عليه السّلام: أنشد، فأنشده، فقال عليه السّلام: يا غلام أخرج من ذلك البيت بدرة فادفعها إليه، فقال له الكميت: والله ما امتدحتكم لعرض الدنيا أطلبه منكم، وما أردت بذلك ألّا صلة رسول الله صلى الله عليه وآله، وما أوجبه الله لكم علي من الحق. قال: فدعا له أبو جعفر عليه السّلام، ثمّ قال يا غلام ردّها إلى مكانها.." الخبر.[2]
2- السيّد المرتضى في الغرر والدرر أخبرنا علي بن محمد الكاتب قال: أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال: لمّا بايع المأمون لعليّ بن موسى الرضا عليهما السّلام بالعهد، وأمر النّاس بلبس الخضرة صار إليه دعبل بن علي، وإبراهيم بن العباس الصولي -وكانا صديقين لا يفترقان- فأنشد دعبل:
مدارسُ آياتٍ خَلَتْ مِن تِلاوةٍ *** وَمنزلُ وَحيٍ مُقفرُ العَرَصاتِ
وأنشد إبراهيم بن العبّاس -على مذهبه- قصيدة أوّلها:
أزالَت عزاءَ القلبِ بعدَ التَّجلُّدِ *** مصارعُ أولادِ النَّبيِّ محمَّد
قال: فوهب لهما عشرين ألف درهم من الدرّاهم الّتي عليها اسمه وكان المأمون أمر بضربها في ذلك الوقت، فأما دعبل فصار بالشطر منها إلى قم فاشترى أهلها منه كل درهم بعشرة دراهم، فباع حصته بمئة ألف درهم، وأما إبراهيم بن العبّاس فلم يزل عنده بعضها إلى أن مات.
وفي حادثة مشابهة في عيون الأخبار في خبر طويل: ثم نهض الرضا عليه السلام بعد فراغ دعبل من إنشاد القصيدة وأمره أن لا يبرح من موضعه فدخل الدار فلمّا كان بعد ساعة خرج الخادم إليه بمائة دينار رضوية فقال له: يقول لك مولاي إجعلها في نفقتك فقال دعبل: والله ما لهذا جئت ولا قلت هذه القصيدة طمعًا في شئ يصل إلي وردّ الصرة وسأل ثوبا من ثياب الرضا عليه السّلام ليتبرك ويتشرف به فأنفذ إليه الرضا عليه السلام جبة خز مع الصرة وقال للخادم: قل له خذ هذه الصّرة فإنك ستحتاج إليها ولا تراجعني فيها فأخذ دعبل الصرة والجبة وانصرف الخبر.
3- ابن شهرآشوب في المناقب حكى أن المنصور تقدّم إلى موسى بن جعفر عليه السّلام بالجلوس للتهنية في يوم النّيروز وقبض ما يحمل إليه فقال عليه السّلام: إنّي قد فتّشت الأخبارَ عن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله فلم أجد لهذا العيد خبرًا، وإنّه سُنَّة للفرس ومحاها الإسلام، ومعاذ الله أنْ نحيي ما محاها الإسلام. فقال المنصور: انّما نفعل هذا سياسة للجند؛ فسألتك بالله العظيم إلّا جلست، فجلس ودخلت عليه الملوك والأمراء والأجناد يهنونه ويحملون إليه الهدايا والتحف -وعلى رأسه خادم المنصور يحصي ما يحمل- فدخل في آخر النّاس رجل شيخ كبير السن، فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله إنّني رجل صعلوك لا مال لي أتحفك؛ ولكن أتحفك بثلاث أبيات قالها جدّي في جدّك الحسين بن علي عليهما السلام:
عجِبتُ لمصقولٍ عَلاكَ فرندهُ *** يومَ الهياجِ وقد علاكَ غبارُ
ولأسهمٍ نفذتك دونَ حرائرٍ *** يدعونَ جدّكَ والدموعُ غزائر
ألا تغضغضت السّهامُ وعاقَها *** عن جسمك الإجلالُ والإكبارُ
قال عليه السلام: قبلت هديتك اجلس بارك الله فيك، ورفع رأسه إلى الخادم وقال: امض إلى أمير المؤمنين وعرفه بهذا المال وما يصنع به فمضى الخادم وعاد وهو يقول: كلّها هبة منّي له يفعل به ما أراد فقال موسى عليه السّلام للشّيخ: اقبض جميع هذا المال فهو هبة منّي لك.
وهناك روايات في غير الرّثاء كما في مدح الفرزدق لمولانا زين العابدين عليه السّلام فأعطاه لأربعين سنة وغيرها ممّا لا يستدلّ به على المطلوب، ولكن كلها تشترك في أنّ الأموال كانت صلات وعطاء وهبة من الأيمة الاطهار كما صرّح بذلك الإمام الكاظم في الخبر الأخير.
وعلى أيّ حال، كيف تُطلق عليها أجرة كما بنى المصنّف ولم يكن الشّاعر أو الرّاثي مستأجر؟ بل كانوا يدخلون على الإمام كغيرهم فيطلب منهم الإمام أن ينشدوا تارة، وتارة يكون الطّلب منهم بأن يتشرفوا بإنشاد شعرهم أمام ولي الله، بل وحتّى لو استُدِل في الاستئجار بما ورد في قصة بشر أو بشير بن حذلم مع الإمام علي بن الحسين تكون أشد في ردّ المطلوب فإنها لم تحكِ لنا عن أموال دُفعت جزاءً لنعيه.
وبهذا يُردّ دليله الثّاني كذلك إذ لا استئجار أصلا لنثبت المشابهة بين النّعي وبين الاستئجار للصلاة التي لو سلّمنا بها لا تكون مقيسة عليه لاختلاف طبيعة الأمرين فهذا رثاء فيه جزاء لنفس النّاعي مترتّب على فعله الناشئ من حزنه على آل محمّد أو غيره من الدّواعي المشابهة، أمّا المستأجر لقراءة القرآن فبأدنى تأمّل هو ليس كذلك، وأحسب أنّ اشتباه شيخنا في هذا الدّليل نشأ من إدخال لفظ الاستئجار.
الملاحظة الثّانية:
ادّعى الشّيخ تحصيل الأجر والثواب من الرّثاء لكونه بابا من أبواب التكسّب المأمور به وهذا يشدّد ويؤكّد الإشكال الذي تقدّم في عدم خلوص النّيّة لله ولأهل بيته، ويخالف سيرة الشّعراء الّذين رثوا الحسين عليه السّلام في زمن الأيمة فلاحظ الرّوايات الّتي تقدّمت وكيف ينفي الشّاعر عن نفسه أنّه قد أنشد من باب الكسب، وأريد بهذه السّيرة بيان أنّ الإمام لم يكن جزاؤه مبنيّا على نيّة التكسب من الشاعر كما يريد الشّيخ وكما هو حاصل عندنا فلا يستدل بالأخبار على هذا الأمر، فتأمّل.
الملاحظة الثّالثة:
استدلَّ الشّيخ على جواز النّياحة على غير المعصوم بالخبر الوارد عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: مات الوليد بن المغيرة، فقالت أم سلمة للنّبي صلى الله عليه وآله: إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم؟ فأذن لها فلبست ثيابها وتهيّأت -وكانت من حسنها كأنّها جان، وكانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها وعقدت بطرفيه خلخالها-، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت:
أَنْعَى الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ* * * أَبَا الْوَلِيدِ فَتَى الْعَشِيرَهْ
حَامِي الْحَقِيقَةِ مَاجِدٌ* * * يَسْمُو إِلَى طَلَبِ الْوَتِيرَهْ
قَدْ كَانَ غَيْثاً فِي السِّنِينَ* * * وَ جَعْفَراً غَدَقاً وَ مِيرَهْ
فما عاب رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك ولا قال شيئا.
وأتوقّف هنا في كون هذه الرّواية جاءت في فعل امرأة؛ وتجرية ما جاء فيهنّ للرّجال في غاية الإشكال خصوصا في هذا المورد فقد جاء في الخبر: عن خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين - في حديث - قالت: سمعت عمي محمّد بن علي عليه السّلام يقول: إنّما تحتاج المرأة إلى النّوح لتسيل دمعتها ولا ينبغي لها أن تقول هجرا، فإذا جاء الليل فلا تؤذي الملائكة بالنوح.
نعم، يصحّ استدلال الشّيخ بهذا الخبر للنّواحة على غير المعصوم للنّساء، خصوصا وأنّه لا مخالف في كون المتكسّب بالنّياحة في ذلك العصر النّساء لا الرّجال، فلم يعهد وجود (نائحون) فهذا يبعّد شمول ما ذكره للرّجال.
الملاحظة الرّابعة:
استدلّ الشّيخ بإذن النبي صلّى الله عليه وآله على رجحان النّوح مطلقا حتّى على غير المعصوم. وأثار هذا المورد من الرّسالة تعجّبي؛ فكيف جرّد الشّيخُ ما حفّ الإذن من مناسبات وظروف ليحكم من خلاله وحسب بحكم عام! فهل نغفل عن كونه ابن عمّها؟ وهل ننفي مدخليّة كونها امرأة كما تقدّم؟ نعم، أجاد أخي المحقّق فأورد أخبارا تدلّ على المطلوب، ولعلّ الشّيخ رحمه الله اكتفى بالإذن من باب إنّه مُؤيّد بغيره من الرّوايات الدّالة على الرّجحان ولكن لم يذكرها رعاية للإيجاز.
الملاحظة الخامسة:
استدلّ أعلى الله مقامه على جواز أخذ الأجر على النّياحة على المعصوم بخبرين:
الأوّل: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى.
الثّاني: عن مهران بن محمد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) أوصى أن يناح عليه سبعة مواسم فأوقف لكل موسم مالا ينفق فيه.
والتّوقّف في جهات:
الجهة الأولى بأنّ الأجر هنا للنوائح لا للشعراء والمنشدين والرّاثين، والفرق واضح لا يمكن التّخلّص منه فذلك عملهم الذّي يستحقون به الأجرة، أمّا هؤلاء فليسوا كذلك.
الجهة الثّانية بأنّ الأجرة الموصى بها من نفس الإمام لينبدوه وهذا لا يدّلنا على جواز استئجار النوادب ليندبوا الإمام، نعم قد يدل عليه دليل آخر.
الجهة الثّالثة: الأجرة الموصى بها مقيّدة بزمان معيّن ومكان خاص وتعميمه لجواز استئجار النوائح عليه في كل زمان وكل مكان يحتاج لكلفة ومؤنة زائدة.
الملاحظة الأخيرة:
استدلّ المصنّف بنفس الرّوايات المذكورة أعلاه على استحباب ورجحان أخذ الأجرة وهذا جدًا غير واضح، ولا هو ظاهر من الأخبار الّتي أوردها، فهي تدلّ على أمرين، أولهما أنّ الإمام أوقف لندبته سنين. وثانيهما استحقاق الأجرة بالندب لمن شغلها الندب.
يوم استشهاد سيدي ومولاي الإمام العابد والصّابر الزّاهد علي بن الحسين زين العابدين عليه السّلام
٢٥ من شهر المحرّم على قتيله السّلام ١٤٤٢هـ
السيّد علي بن السيّد محمّد بن السيّد علوي (علي) العلوي
البحرين
[1] والبَدْرَةُ كيس فيه أَلف أَو عشرة آلاف(لسان العرب)
[2] أوردت هذا الخبر لاحتمال يذكره البعض في كون إحدى قصائده الّتي أنشدها رثائيّة.