﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا () قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا () وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا () وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا () وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[1]﴾
لماذا هذا البحث:
في التاريخ تشوية كبير تتعرض له الشخصيات الكبيرة، فعادة ما كلما كانت هذه الشخصية كبيرة وذات همة عالية ولها موقعية الصدارة في الحياة فلا بد لها من أن تتعرض للمغرضين والحاقدين وأصحاب المصالح والمطامع الذين لا يرتضون وجود مثل هذه الشخصية في الحياة، فكيف لو كانت هذه الشخصية هي أرفع وأرقى واشرف مخلوق على وجه الأرض، فإنها بلا إشكال ستكون أكثر شخصية تنالها سهام العدى من القاصي والداني من المعاصرين لها أو من يأتون بعدهم، فمعادة نبينا الكريم لم تتوفق لحظة واحدة.
وبما أنه يعنينا البحث في تاريخ السيرة النبوية فإننا سنجد مثل هذه السهام التي تحاول تشويه صورة النبي صلى الله عليه وآله فالتشويه لا يراعي حقبة معينة من سيرته بل شملت كل فترة من فتراته ومنها ما يتعلق بالتشويه المتعمد في سيرته قبل البعثة وكأن ذلك تمهيد لما بعد البعثة فلو كانت سيرته نقية تماما قبل البعثة فمن الصعوبة بمكان إقحام ما يشينه بعد البعثة أما إذا تمهد الأمر فيما قبل البعثة فإن المقبولية لها بعد البعثة أخف وطأة لما بعدها.
وهنا البحث مخصص لتنزيه النبي قبل البعثة لأن ذلك أساس يرفع كل ما سيلصق به لما بعد البعثة ولكن قبل البحث في مثل تلك المرويات علينا أن نأصل أصلا مهما لنفي مثل هذه التشويهات التي حاول بها الأعداء وصمها لرسول السماء عن قصد وغير قصد حتى صار من يأتي بعدهم ويأخذه مسلمة وكأنها حقيقة في أعظم شخصية في مخلوقات الله عز وجل.
هل يولد الأنبياء قبل تسلمهم مهام الهداية للبشر وهم معصومون أم العصمة تكون لاحقة؟
الكلام هنا ليس عن العصمة المكتسبة التي قد ينالها الإنسان الطبيعي عندما يروض نفسه بترك المعاصي والموبقات ويجتهد في الطاعات إذ أن هذه ممكنة لكل أحد ولا يمكن أن تكون من حين الولادة بل لابد لها أن تأخذ زمانا تترقى النفس والروح حتى تصل فيها إلى تلك الدرجة من النزاهة والطهر، ولكننا نتكلم عن العصمة المُفاضة من قبل الله سبحانه وتعالى على نفوس الأنبياء والتي هي نفوس ذات استعداد خاص خلقها الله لتكون منارا وهداية للناس وهذه العصمة قد اختلف المسلمون فيها إلى أقوال متعددة ذكرها الفخر الرازي في كتابه عصمة الأنبياء إذ يقول " [ اعلم ] أن الاختلاف في هذه المسألة واقع في أربعة مواضع:
[الأول] ما يتعلق بالاعتقادية . واجتمعت الأمة على أن الأنبياء معصومون عن الكفر والبدعة إلا الفضيلية من الخوارج فإنهم يجوزون الكفر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وذلك لأن عندهم يجوز صدور الذنوب عنهم وكل ذنب فهو كفر عندهم، فبهذا الطريق جوزوا صدور الكفر عنهم، والروافض فإنهم يجوزون عليهم إظهار كلمة الكفر على سبيل التقية.
[الثاني] ما يتعلق بجميع الشرائع والأحكام من الله تعالى، وأجمعوا على أنه لا يجوز عليهم التحريف والخيانة في هذا الباب لا بالعمد ولا بالسهو، وإلا لم يبق الاعتماد على شيء من الشرائع.
[الثالث] ما يتعلق بالفتوى . وأجمعوا على أنه لا يجوز تعمد الخطأ. فأما على سبيل السهو فقد اختلفوا فيه.
[الرابع] ما يتعلق بأفعالهم وأحوالهم . وقد اختلفوا فيه على خمسة مذاهب:
(الأول) الحشوية وهو أنه يجوز عليهم الإقدام على الكبائر والصغائر.
(الثاني) أنه لا يجوز منهم تعمد الكبيرة البتة وأما تعمد الصغيرة فهو جائز، بشرط أن لا تكون منفرا. وأما إن كانت منفرا فذلك لا يجوز عليهم ، مثل التطفيف بما دون الحبة وهو قول أكثر المعتزلة.
(الثالث) أنه لا يجوز عليهم تعمد الكبيرة والصغيرة، ولكن يجوز صدور الذنب منهم على سبيل الخطأ في التأويل ، وهو قول أبي علي الجبائي.
(الرابع) أنه لا يجوز عليهم الكبيرة ولا الصغيرة ، لا بالعمد ولا بالتأويل والخطأ. أما السهو والنسيان فجائز ثم إنهم يعاتبون على ذلك السهو والنسيان، لما أن علومهم أكمل ، فكان الواجب عليهم المبالغة في التيقظ، وهو قول أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام .
(الخامس) أنه لا يجوز عليهم الكبيرة ولا الصغيرة لا بالعمد ولا بالتأويل ولا بالسهو والنسيان . وهذا مذهب الشيعة.
واختلفوا أيضا في وقت وجوب هذه العصمة:
فقال بعضهم: إنها من أول الولادة إلى آخر العمر، وقال الأكثرون : هذه العصمة إنما تجب في زمان النبوة. فأما قبلها فهي غير واجبة. وهو قول أكثر أصحابنا رحمهم الله تعالى.
والذي نقول: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد . أما على سبيل السهو فهو جائز[2]."
هذه خلاصة الآراء وإن كان دعواه بأن الإمامية والذي عبر عنهم بالروافض يقولون بجواز إظهار كلمة الكفر من النبي تقية هو تجني عليهم إذ لم يقل به أحد من الشيعة لا اعتقادا ولا رواية إذ أن كلمة الكفر تناقض الغرض من البعثة أصلا فكيف يمكن أن يصدر منهم ذلك والإمامية يشترطون من جملة الشرائط في التقية أن لا يلزم منه هدم الدين ونقضه فصدور مثل ذلك من الناس ممكن إذا لا يستلزم منه هدم الدين كما فعل الشهيد عمار بن ياسر وقد روى السنة والشيعة قول النبي له "إن عادوا فعد" ففي الكافي عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ): ...ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان ، فأنزل الله عز وجل فيه " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله ) عندها : يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عز وجل عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا[3]."
وروى الحاكم في المستدرك بسنده "عن ابن عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال اخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله قال ما وراءك قال شر يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال كيف تجد قلبك قال مطمئن بالإيمان قال إن عادوا فعد هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه[4]"
ولكن هذا لا يعني أن يصدر من النبي صلى الله عليه وآله لوضوح أن ذلك خذلانا لنفس الدين ونقض الغرض بالبعثة نعم قد يظهر ذلك على لسان النبي بغرض التعليم والتفهيم والهداية كما جرى ذلك على لسان نبينا إبراهيم عليه السلام ولكن لم يكن ذلك تقية.
وهنا يظهر أنّ ما ذكره هو استنتاج من عنده وهذا متداول عندهم في الكتب العقائدية التي تناقش التقية عند الشيعة الإمامية فيقومون بتوسعة الدليل وإلغاء شرطه والحقيقة أنه ليس قولا للشيعة.
بعض ما يذكر من الأدلة على عصمة الأنبياء منذ ولادتهم:
- أن الغرض من بعثة الأنبياء هو هداية البشر وفي سبيل تحقيق ذلك رفع كل مؤثر سلبي ومنفر للبشر، وارتكاب الذنب أو الخطأ مهما كان صغيرا أم كبيرا هو منفر بطبعه مقلل للتأثير من الهادي للمهدي، ولا فرق في ثبوت هذا الداعي بين كونه قبل البعثة أو بعدها، وخلو النفس من تلك الموبقات أو الأخطاء ما دام ممكنا وهو ما نعبر عنه بالعصمة قبل البعثة كما هو بعدها، فإنه بمقتضى اللطف الإلهي ثبوته وإلا فإن ثبوت الخطأ وهو المنفر في نفسه قبيح وتعالى الله ذلك علوا كبيرا أن يجعل في الداعي له منفر من المنفرات.
وبعبارة أخرى هل الأولى والأفضل ثبوت العصمة له من جميع الأخطاء والزلات قبل البعثة وبعدها أم ثبوتها فقط بعد البعثة، فإذ كان ثبوتها قبل البعثة وبعدها أولى وأفضل فيكون عدم ثبوت ذلك مرجوحا لا راجحا، فهل يعقل أن يفعل الله بأنبيائه في سبيل هداية البشر المرجوح ويترك الراجح، ولذا تقول الإمامية بمقتضى اللطف الإلهي وهو ترجيح الأولى الذي يدخل في صالح العباد بكون الأنبياء معصومون من الزلل والخطأ وكل ما يشينهم قبل البعثة وبعد البعثة.
- ثبت أن الأنبياء مصطفون ومختارون من قبل الله تعالى بصريح القرآن وثبت أيضا أن إبليس وجنوده لا سبيل على الذي اصطفى، وهذا الاصطفاء هو من علم الله قبل خلقهم وولادتهم، فعليه فهم يولدون وهم مصطفون وابليس وجنوده ليس لهم سلطان عليهم وبذلك ينقطع عنهم أقوى حبل في الإغراء فإذا كان بعض خلق الله استطاعوا تجنيب أنفسهم من الوقوع في المعصية مع كون ابليس مسلط عليهم فكيف بأنبياء الله الذي لا سبيل لإبليس عليهم وهم في أعلى المراتب من القرب الإلهي منذ ولادتهم حتى مماتهم فإن عدم وقوعهم في الخطأ والزلل أولى من عدم وقوع غيرهم بالعصمة المكتسبة.
- إن الله جعل أنبياءه قدوة للبشر وعليه كل ما يصدر عنهم سيكون مدعاة للاقتداء والناس لا تفرق بين ما يصدر من النبي أنه من الله أو منه فإن كان من الله فهو صحيح وإن كان منه فهو خطأ ولحصول هذا الالتباس وجب أن يكونوا معصومون في تمام أحوالهم وإلا فإن أصحاب الذنوب سيتعذرون بوقوع الذنوب والأخطاء منهم بوقوعها بمنهم في أعلى المراتب فيكونون في فعلهم أعذر.
وعلى كل فالأدلة على ذلك كثيرة يرجع فيها إلى مضانها ولكنا أردنا من ذلك مقدمة لما ورد من بعض الروايات التي تخدش في حياء النبي وعصمته في صغره ومنها نعرف لِمَ لَمْ يقبل الشيعة مثل هذه المرويات وقَبِلَ بعضها غيرهم مع أنّ بعض ما يروى لا يصدر من أشخاص أتقياء عاديون ولكنهم مع هذا حملوها على النبي صلى الله عليه وآله.
روايات موضوعة تخدش في عصمة نبينا الكريم:
قبل أن نبدأ بعرض الأدلة على عصمة النبي صلى الله عليه وآله وثبوت نبوته منذ الولادة نستعرض بعض الروايات التي يضهر من خلالها منافاتها للعصمة والنبوة على المبنى الصحيح ومن خلالها نناقش فكرة العصمة له صلى الله عليه وآله، فمن هذه الروايات:
ما ذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج قال: وروى الطبري في التاريخ عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي ع قال سمعت رسول الله ص يقول ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله تعالى بيني و بين ما أريد من ذلك ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته.
قلتُ ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالدف[5] و المزامير، فقلت: ما هذا.
قالوا: هذا فلان تزوج ابنة فلان، فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت.
فقلت: ما صنعت شيئا ثم أخبرته الخبر ثم قلت له: ليلة أخرى مثل ذلك. فقال: أفعل، فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة فجلست أنظر فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله برسالته[6]"
هذة الرواية تدل على أن النبي وهو شاب قد هم بالاستماع إلى الغناء والطرب وما يلحق ذلك اختلاط الرجال بالنساء والرقص وغير ذلك من المحرمات إذ ذلك المتوقع من أفعال الجاهلية في أعراسهم، فمعنى ذلك أنه هم على ذلك ولكن منعه الله من ذلك بغلبة النوم عليه إلا أنه مع ذلك فقد استمع فترة من الزمن إلى الغناء والمزامير وهو في طريقه إليهم، وهذا الفعل من الاستماع إلى المحرم والهم إلى ما هو أكبر ينافي العصمة التي تكلمنا عنها سابقا.
ومن الروايات ما رواه محمد بن حبيب في أماليه قال: قال رسول الله (ص): أذكر و أنا غلام ابن سبع سنين و قد بنى ابن جدعان دارا له بمكة فجئت مع الغلمان نأخذ التراب و المدر في حجورنا فننقله فملأت حجري ترابا فانكشفت عورتي فسمعت نداء من فوق رأسي يا محمد أرخ إزارك فجعلت أرفع رأسي فلا أرى شيئا إلا أني أسمع الصوت فتماسكت و لم أرخه فكأن إنسانا ضربني على ظهري فخررت لوجهي و انحل إزاري فسترني و سقط التراب إلى الأرض فقمت إلى دار أبي طالب عمي و لم أعد[7]"
هذه الرواية تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وهو صغير صبي قد تعمد كشف سوئته – وحاشاه ذلك صغيرا وكبيرا - وهي وإن لم تكن ذنبا ولكن يتلزم نقصا في شخصه وشيناً في فعله وقصورا في عقله.
وجاء في مسند أحمد بن حنبل بسنده عن أبي الفضل قال: "أدركت ثمان سنين من حياة رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وولدت عام أحد حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن ابن خثيم عن أبي الطفيل وذكر بناء الكعبة في الجاهلية قال فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها فرفعوها في السماء عشرين ذراعا فبينا النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضع النمرة على عاتقه فيرى عورته من صغر النمرة فنودي يا محمد خمر عورتك فلم ير عريانا بعد ذلك[8]"
وهذه الرواية أقبح من الأولى إذ تدل على أن الناس قد رأوا سوأته والعياذ بالله فترة من الزمن وهو شاب وهو ينافي مروته وينقص من قدره وعقله.
وفي مسند أبي يعلى "عن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم قال فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قال فقال كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الأصنام قبل قال فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم[9]"
وهذه أعظم من سابقاتها ولذا لم يقبلها الكثير من علماء المسلمين وإن حاول البعض تأويلها.
الجواب على هذه الروايات وأمثالها:
الجواب الأول: الآيات التي وردت أن خاتم الأنبياء قد بشر به الأنبياء السابقين:
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ[10]﴾
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[11]﴾
هذه آيات صريحة في تعيين النبوة في شخصية خاتم النبيين مما يؤكد أن النبي ولد مرسوما لها ولذا فلا ينبغي الشك في أن له استعدادا خاصا يختلف عن بقية البشر بتمامهم إذ هو يحمل الرسالة الخاتمة قال تعالى ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليماً[12]﴾ فإذا كان الأنبياء يصطفيهم الله بعلمه وإرادته قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمينَ[13]﴾ فالنبي محمد صلى الله عليه وآله هو صفوة الاصطفاء لكون هو أشرف الأنبياء والمرسلين إضافة إلى ذلك فهو من المخلصين الذي لا سبيل للشيطان عليهم قال تعالى ﴿قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[14]﴾ وإضافة إلى ذلك العناية الربانية به والتي نسبها الله إلى نفسه مباشرة منذ والولادة قال تعالى ﴿أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى () وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى () وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى[15]﴾
وبهذا الرسم القرآني لنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله ألذي يتضح أنه أولاً: قد اختير نبيا قبل ولادته وبشر الأنبياء بقدومه وثانياً: أنه من الذين اصطفاهم الله عز وجل، وثالثاً: أنه من المخلصين الذين لا سبيل للشيطان عليهم ورابعاً: العناية المباشرة له من قبل الله، فإذا كان كذلك فهل من المعقول أن يصدر منه القبيح أو ما يشينه بأي درجة من الدرجات وفي أي عمر كان وهو بهذه الدرجة من العناية الإلهية والشيطان لا يمكن أن يقربه بشكل مطلق فما دام الاصطفاء والإخلاص قد سبقت ولادته فكيف يعقل أن نتصور أنه تصدر منه قبائح الأفعال صغيرها أو كبيرها.
الجواب الثاني: نبوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ثابتة له قبل ولادته بدلالة الروايات من الفريقين وهي كثيرة منها:
وجود روح ونور محمد قبل خلق آدم:
في رواياتنا الكثير مما يدل على أن نور النبي الأكرم كان قبل الخلق منها:
- عن جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال : إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وآله قبل أن خلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار ، وقبل أن خلق آدم ونوحا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى و عيسى وداود وسليمان[16]"
- عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَال لِي أَبُو جَعْفَرٍ )ع(: يَا جَابِرُ إِنَّ اللَّه أَوَّلَ مَا خَلَقَ خَلَقَ مُحَمَّداً ص وعِتْرَتَه الْهُدَاةَ الْمُهْتَدِينَ فَكَانُوا أَشْبَاحَ نُورٍ بَيْنَ يَدَيِ اللَّه قُلْتُ ومَا الأَشْبَاحُ قَالَ ظِلُّ النُّورِ أَبْدَانٌ نُورَانِيَّةٌ بِلَا أَرْوَاحٍ وكَانَ مُؤَيَّداً بِرُوحٍ وَاحِدَةٍ وهِيَ رُوحُ الْقُدُسِ فَبِه كَانَ يَعْبُدُ اللَّه وعِتْرَتَه ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ حُلَمَاءَ عُلَمَاءَ بَرَرَةً أَصْفِيَاءَ يَعْبُدُونَ اللَّه بِالصَّلَاةِ والصَّوْمِ والسُّجُودِ والتَّسْبِيحِ والتَّهْلِيلِ ويُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ ويَحُجُّونَ ويَصُومُونَ[17].
ومن روايات أهل السنة ذكر المقريزي في إمتاع الأسماع مجموعة منها في هذا الصدد منها:
- (أ)خرج الترمذي من حديث الوليد بن مسلم قال : حدثنا الأوزاعي ، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قالوا : يا رسول الله ! متى وجبت لك النبوة ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، هذا آخر كلام الترمذي .
وقد رواه عباد بن جويرية عن الأوزاعي مرسلا ، واختلف على الوليد بن مسلم فيه ، فرواه بعضهم عنه مرسلا ، ورواه بعضهم عنه فأسنده كما تقدم ذكره .
- ولأبي نعيم من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل عن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال : متى كنت يا رسول الله نبيا ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد.
- وله من حديث حجاج بن مبهال، حدثنا حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن عبد الله بن شفيق عن رجل أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى كنت نبيا؟ قال :وآدم بين الروح والجسد . كذا رواه حماد ولم يسم ميسرة ، وتابعه عليه عن خالد الحذاء وهب بن خالد.
- ولأبي نعيم من حديث عمرو بن واقد ، عن عروة بن رويم، عن الصنابجي قال عمر رضي الله عنه : متى جعلت نبيا ؟ قال : وآدم منجدل في الطين.
- وله من حديث نصر بن مزاحم ، حدثنا قيس بن الربيع عن جابر عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قيل : يا رسول الله ! متى كنت نبيا ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد . تفرد به نصر بن مزاحم .
- وله من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد ، عن العرباض بن سارية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إني عبد الله في أم الكتاب وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته .
- وفي رواية : أنا عبد الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته . وفي رواية : إني عبد الله مكتوب بخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته . وفي رواية : إني عبد الله لخاتم النبيين وإن آدم في طينته.
- وخرجه الحاكم من حديث عثمان بن سعيد الدارمي قال : قلت لأبي اليمان : حدثك أبو بكر بن أبي مريم الغساني عن سعيد بن سويد عن العرباض بن سارية السلمي قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إني عبد الله في أول الكتاب بخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسآتيكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي بي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام . قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد.
- وخرج أبو نعيم من حديث سعيد عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث.
- وفي الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة " الحديث . وله طرق[18]".
إذا من مجموع هذه الروايات من طرق الشيعة والسنة أن النبي صلى الله عليه وآله نبوته سابقة على وجوده كإنسان بشري متولد من أبوين طاهرين ولا معنى لأن تكون النبوة سابقة له في أول الخلق ثم ترفع وبعدها توضع مرة أخرى فيكون في فترة خالية ولهذا فإن النبوة ملازمة له من يوم ولادته بل قبلها على التحقيق وما دامت النبوة ثابتة لهم فالعصمة معها لا تنفك عنها.
الجواب الثالث: أن النبي هو أشرف المخلوقات وأشرف الناس وأشرف النبيين على الإطلاق وهذا ما لا ينكره أحد من المسلمين إلا من سفه عقله فإذا ثبت لأحد من الخلق شرف ما فما عند النبي مرتبته الأعلى فتثبت له الأشرفية أما إذا قلنا بأن شرف ما يثبت عند آخرين وإن كانوا أنبياء ولا يثبت برتبة أعلى عند النبي فهذا يعني أن الشرفية له صلى الله عليه وآله أصبحت شرفية نسبية تعلو في جانب وتنخفض في جانب آخر وقد ثبت أن بعض الأنبياء بصريح القرآن أنبياء منذ الولادة وذكر لأنبياء التسليم عند الولادة وعند الموت وعند البعث مما يعنى تعادل حالته في التسليم من الولادة حتى البعث قال تعالى في حق النبي يحي عليه السلام ﴿وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا[19]﴾ وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام ﴿وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[20]﴾ وهكذا بقية الأنبياء بهذه الصفة من التسليم الإلهي عليهم وقد مرّ من الآيات ما يثبت التصريح لبعض الأنبياء بالنبوة منذ أن كان في المهد فلو كان عيسى نبيا في مهده ونبينا قد انتفت عنه هذه الصفة لثبتت الأشرفية لعيسى على نبينا صلى الله عليه وآله من هذه الجهة، وهكذا لو ادعى شخص ثبوت معرفة أي معرفة يكون النبي جاهل بها لكان هو أشرف من النبي في هذه الجهة وحاشا النبي ذلك فكيف لا يعلم كيف يُأبر النخل وهو الأقرب من الله من أي أحد حتى كان قاب قوسين أو أدنى وقد اطلع على ملكوت السماوات والأرض إن هذا لشيء عجاب.
الجواب الرابع: ذكر للنبي حوادث تاريخية متعددة منذ ولادته حتى بعثته تنم عن أن نفس النبي ذات مرتبة عالية وأنه ذو أفق عال وبعيد قد فاق كل أقرانه فما يذكر في ولادته ورؤية أمه لحضارات الأمم وهي على مهد الولادة وما روي عنه عند لقائه حبر بصرى الشام وما ذكر من التوسل به للاستمطار وغير ذلك دلالة على علو شأنه وقدره وأنه ذو لب ثاقب وهمة عالية لا تتناسب ومثل هذه الحوادث التي تدل على الوضاعة وصغر النفس وتقزمها أمام مغريات شيطانية أو أفعال منافية للقدسية والتكريم، فكيف لنفس كتب لها أن تقود العالم بأسره وترتقي به في مدارج الكمال غير قادر على كبح نفسها أمام المغريات الشيطانية أو أمام صغائر الأوضاع التي تنم على أن فاعلها أو مريدها ذا نفس تلعب به الأهواء وتغريه مواضع الجهلة والفساق، حاشا لنبي من الأنبياء أن يكون كذلك فكيف بأشرف الأنبياء!
...................................
[1] مريم 29-33
[2] عصمة الأنبياء - فخر الدين الرازي - ص 7 - 9
[3] الكافي - الشيخ الكليني - ج 2 - ص 219
[4] المستدرك - الحاكم النيسابوري - ج 2 - ص 357
[5] الطبريّ:« بالدفوف».
[6] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج13، ص: 208
[7] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج13، ص: 208
[8] مسند أحمد - الإمام أحمد بن حنبل - ج 5 - ص 454 - 455
[9] مسند أبي يعلى - أبو يعلى الموصلي - ج 3 - ص 398 - 399
[10] الصف - 6
[11] الأعراف - 157
[12] الأحزاب - 40
[13] آل عمران - 33
[14] الحجر- 40
[15] الضحى 6-8
[16] الخصال - الشيخ الصدوق - ص 481 - 482
[17] الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 442
[18] إمتاع الأسماع - المقريزي - ج 3 - ص 169 - 176
[19] مريم - 15
[20] مريم - 33