اختلف العلماء في وجوب تقليد الأعلم على أقوال متعددة، والإشكاليّة في البحث إشكاليّة ذات أطراف، وكلما استند الناظر فيها إلى جهة وجد ما يمنع منها أو يدافعها، فدعوى الإجماع من قبل السيد المرتضى على وجوب تقليد الأعلم قد يُستند إليها في المقام، إلّا أنّ المانع منها هو اختصاصها بأمر الإمامة لا التقليد في الفروع الفقهيّة، وهذا ما يقضي على الباحث تحرير مدى دلالة الإجماع، وظاهر الإجماع على خلاف الاختصاص، ثم إنّه لمّا كان الرجوع للأعلم ذا طرفٍ عقليّ من وجهٍ، وهو قبح تقديم المفضول على الفاضل كان ذلك يصلح شاهدًا على سعة الإجماع بعد ظهوره، فإنّ القاعدة العقليّة غير قابلة للتقييد والتخصيص، فتلقي بظلالها على كل معالم الدين وتفاصيل الشريعة، ولا يختصُّ ذلك بالأصول دون الفروع.

ويمكنُ الاستناد على ما تدلُّ عليه السيرة العقلائية، حيث تبانوا على الرجوع للأعلم، فالقضية العقلية بقبح تقديم المفضول على الفاضل قد تنزّلت في سيرتهم بالرجوع للأعلم، لكن دعوى تباني العقلاء على ذلك معارضة بدعوى تبانيهم على الرجوع للعالم ولو لم يكن الأعلم، لاستلزام الرجوع للأعلم العسر والحرج مع ما في ذلك من إشكاليات من حيث التشخيص والضابطة، بل لو التزم العقلاء بالرجوع للأعلم لتعطلت شؤونهم، وإضافةً لذلك فقد جرى المتشرعة على الرجوع للعالم في أمور دينهم، والرجوع له يوافق مصلحة التسهيل المرعية عند الشارع.

وقد يُعتمدُ على الأخبار بدعوى دلالتها على الرجوع للأعلم كرواية عمر بن حنظلة، إلّا أنّها تواجه إشكالًا سنديًّا ودلاليًّا، وعلى فرض تجاوز الإشكال من جهة السند يبقى الإشكال من جهة الدلالة، لكونها واردةً مورد القضاء لا الفتيا.

ومع ذلك فإنّ الأدلّة المطلقة تقتضي التخيير لا الإلزام بالرجوع للأعلم كما أنّها مطعمة بالاستغراق على أنّ نظام الأئمّة (ع) في مثل هذه المناصب نظام تكثيري وليس أحادي، وهو أمان لمسار الطائفة، كما أنّ الغرض من تنصيب وتنويب الفقهاء في مثل هذا المنصب وغيره أكثر انطباقًا وملاءمة مع التعدد منه عن التوحّد.

ثم إنّ الأئمة (ع) قد أرجعوا في صريح الأخبار شيعتهم لمجموعة من فقهاء الأصحاب من دون ملاحظة الأعلميّة.

إنّ الشيخ الماحوزي (حفظه الله) أمام هذه الإشكالية العلميّة التي تشخّصت في نظره يتعرّض بدايةً لتحرير أقوال العلماء فيها، وقد ذكر ستة أقوالٍ محققًا في نسبتها لأصحابها، ثمّ بعد ذلك يتعرّض لبيان الأدلّة في المسألة مقوّيًا ونافيًا ومناقشًا، وعمدة الأدلة عنده الأخبار، ومختاره وجوب تقليد الأعلم في ظرف الخلاف مع غيره، فقد قوّى أدلّة القائلين بذلك وأورد على المقابل.

فالإجماع -الذي مرّت الإشارة إليه- قد لاحظ الشيخ الماحوزي ما يمنعه فقوّاه، ثمّ تعرّض للسيرة العقلائية، وقد مرّ منعُ قيامها على الرجوع للأعلم، فنقّحها وذهب إلى ابتنائها على ذلك، لكن عند تحقق أمرين لا مطلقًا:

الأول: ثبوت الخلاف بين العلماء.

الثاني: كون المسألة من القضايا الخطيرة.

ويشهد لذلك أن الرجوع لغير الأعلم مع توفر الشرطين واتفاق الخطأ منه رجوعٌ مذمومٌ عند العقلاء.

وهكذا جرى الباحث تباعًا في بحثه مستعرضًا الأدلّة إلى أن انتهى به المطاف لعمدة الأدلة عنده وهي الأخبار: مصححة عمر بن حنظلة -على حدّ قوله-، وصحيحة داوود بن الحصين، وحسنة موسى بن أكيل.

فمقبولة عمر بن حنظلة أو مصححته لا نقاش في سندها عنده، لكون عمر بن حنظلة في مصاف محمد بن مسلم وغيره، بل في بعض الروايات أوجهيته على محمد بن مسلم.

وأمّا اختصاصها بباب الخصومة والترافع والقضاء، فقوله (ع): (الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر) مختص بالمورد المذكور، فقد فصل الشيخ الماحوزي في نفي ذلك، فأفاد ما ملخصه: أنّ حقيقة القضاء هو حكم جزئي يُنشؤه القاضي لحسم النزاع والخلاف، ومنشؤ الحكم الجزئي هو تطبيق الحكم الكلي المستنبط بالاستنباط الفقهي، فالصفة التي اعتبرها الشارع في القاضي إنْ كانت مرتبطة بالتطبيق في مقام القضاء كانت حيثيتها الواقعية مخصوصة بمقام القضاء، أمّا إنْ كانت الصفة التي اعتبرها الشارع حيثيتها الواقعية اعتبرت لا لخصوصيةٍ في مقام القضاء، بل هي صفة تتناسب مع المقام الذي يعتمدُ عليه مقام القضاء بالأصل، وهو مقام استنباط الأحكام الشرعية، فعندئذٍ لا يكون للمورد خصوصيّة من حيث اعتبار تلك الصفة، بل مناط اعتبارها أعمّ فيجري فيما نحن فيه.

ثمّ بعد تحريره لأدلة القول المختار، قد حرر الأدلّة النافية وأجاب عليها، وبذلك ختم بحثه طاويًا نتيجته.