بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآله الطيبين الطاهرين.
بَحَثَ سَمَاحةُ الشيخ أحمد الماحوزي (حرسته عينُ الملك العلَّام مِن فِتَنِ الزمان) مسألة تقليد الميت بحثًا رائقًا جَمَعَ فيه الآراءَ ونَاقْشَهَا مناقشةَ العالِم الفاضل، فجزاه الله تعالى خير الجزاء وزاده علمًا وفضلًا وسؤددًا.
أطرحُ في هذه المقالة مِنَ المبادئ ما يُمكِنُ أن يكون مادَّة لمناقشةِ فروع المسألة مناقشة ردٍّ وإقرارٍ وتقويم.
فأقولُ:
التقليد "عنوان من عناوين العمل وطور من أطواره، وهو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل، بأن يكون قولُ الغيرِ هو الذي نشأ منه العمل، وأنَّه السبب في صدوره، فإنَّ المُقلِّدَ في أعماله يتَّكي ويستند إلى قول الغير، فهو المسؤول عن وجهه دون العامِل المُقَلِّد"[1].
فبقوله:
- "بأن يكون قولُ الغيرِ هو الذي نشأ منه العمل، وأنَّه السبب في صدوره".
- "فإنَّ المُقَلِّدَ في أعماله يتَّكي ويستند إلى قول الغير".
- "فهو (أي: ذلك الغير) المسؤول عن وجهه دون العمِل المُقَلِّد".
يكون "التقليد عبارة عن الرجوع إلى العالِم من دون سؤالٍ عن المدرك"[2]؛ إذ أنَّ منشأ العمل والسبب في صدوره هو (القول) مجرَّدًا عن مدركه، ويكون اتِّكاء واستناد العامِل في عمله عليه، فيكون هو المُسوِّغ الشرعي للعمل. أمَّا كونه صحيحًا ومطابقًا للواقع، فالمسؤول عن ذلك هو صاحب القول لا العامِل بالقول.
وهو الموافق للمعنى اللغوي: "تعليق شيء على شيء وليِّه به"[3].
كما وهو الموافق لما ورد في حديث الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعي)، ومنه:
- عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: دَخَلَتْ أُمُّ خَالِدٍ الْعَبْدِيَّةُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام) وأَنَا عِنْدَه، فَقَالَتْ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّه يَعْتَرِينِي قَرَاقِرُ فِي بَطْنِي - [فَسَأَلَتْه عَنْ أَعْلَالِ النِّسَاءِ وقَالَتْ] - وقَدْ وَصَفَ لِي أَطِبَّاءُ الْعِرَاقِ النَّبِيذَ بِالسَّوِيقِ وقَدْ وَقَفْتُ وعَرَفْتُ كَرَاهَتَكَ لَه فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ ذَلِكَ.
فَقَالَ لَهَا: ومَا يَمْنَعُكِ عَنْ شُرْبِه؟
قَالَتْ: قَدْ قَلَّدْتُكَ دِينِي فَأَلْقَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ حِينَ أَلْقَاه فَأُخْبِرُه أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) أَمَرَنِي ونَهَانِي.
فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ (يُخاطِبُ أبا بصير)، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى هَذِه الْمَرْأَةِ وهَذِه الْمَسَائِلِ؟! لَا واللَّه لَا آذَنُ لَكِ فِي قَطْرَةٍ مِنْه ولَا تَذُوقِي مِنْه قَطْرَةً؛ فَإِنَّمَا تَنْدَمِينَ إِذَا بَلَغَتْ نَفْسُكِ هَاهُنَا (وأَوْمَأَ بِيَدِه إِلَى حَنْجَرَتِه يَقُولُهَا ثَلَاثًا) أفَهِمْتِ؟
قَالَتْ: نَعَمْ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السلام): مَا يَبُلُّ الْمِيلَ يُنَجِّسُ حُبّاً مِنْ مَاءٍ. يَقُولُهَا ثَلَاثًا"[4].
الاستدلال من جهتين:
الأولى: لو لم يكن (التقليد) بمعنى العمل على ما يقول (المُقَلَّد) دون سؤال عن مدرك قوله، لما صحَّ منها الارتكاز في سؤالها على كون اتِّباعها لقول الإمام الصادق (عليه السلام) حجَّةً بين يدي الله تعالى؛ حيث إنَّ علمها بالمدرك إمَّا أن يكون من باب العِلم دون ترتيب الأثر، أو هو مبدأ لها، وهذا مسقط لحجية قول الإمام (عليه السلام) بالنسبة لها، ولا يصح مع ذلك أن تقول: "قَدْ قَلَّدْتُكَ دِينِي فَأَلْقَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ حِينَ أَلْقَاه فَأُخْبِرُه أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) أَمَرَنِي ونَهَانِي"
الثانية: قوله (عليه السلام): "لا آذن لك" الدال على أنَّ المقام مقام طاعة وامتثال، لا تَعَلُّم واجتهاد.
- عن أبي محمَّد الحسن العسكري (عليه السلام): "فأمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الفُقَهَاءِ صَائِنًا لِنَفْسِهِ، حَافِظًا لِدِينِهِ، مُخَالِفًا عَلَى هَوَاه، مُطِيعًا لأمرِ مَولَاه، فَلِلعَوَامِّ أنْ يُقَلِّدُوُهُ. وذَلِكَ لَا يَكُوُنُ إلَّا بعض فُقَهَاءِ الشِيعَةِ لا جَمِيعهم"[5].
الاستدلال من جهة قوله (عليه السلام): "فَلِلعَوَامِّ"؛ إذ أنَّ شأن العاميِّ الاتِّباع دون سؤال عن المدرك في خصوص ما هو فيه عاميٌّ.
الفرق بين الفقيه والعامِّي في مسوِّغ العمل:
الفقيهُ أخباريّ وأصولي، وفي نظر الأخباري هو: العارف بعام النص وخاصَّه، ومطلقه ومقيده، وبناسخه ومنسوخه، وبالموارد التي يترجَّح فيها الحمل على التقية (في خصوص الحديث الشريف)، وبغير ذلك ممَّا يكوِّن في نفسه مَلَكَةَ الفهم والقدرة على الجمع الصحيح بين النصوص، وبذلك يكون الفقيه ناقِلًا لقول المعصوم (عليه السلام). ومن مصاديق (قوله قولي)، وهو الذي وردت فيه النصوص الشريفة مثل:
- عبد العزيز بن المهتدي، قال: قلتُ لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): "جُعِلْتُ فِدَاكَ، إنِّي لا أكَادُ أصِل إليكَ أسْألَكَ عَنْ كُلِّ مَا أحْتَاجُ إليهِ مِنْ مَعَالِمِ دِينِي، أفَيُونُس بن عبد الرحمن ثِقَةٌ آخِذُ عَنْهُ مَا أحْتَاجُ إليه مِنْ مَعَالِمِ دِينِي؟
فقال (عليه السلام): نَعَم"[6].
- عن أحمد بن الوليد، عن علي بن المسيب، قال: قلتُ للرضا (عليه السلام): "شقَّتِي بَعِيدَةٌ ولستُ أصِل إليكَ كل وقْتٍ، فَمِمَّنْ آخذُ مَعَالِمَ دِيني؟
فقال (عليه السلام): مِنْ زَكرِيَا ابن آدم القُمِّي المأمون على الدينِ والدُنيا.
قال ابنُ المُسَيَّب: فَلَمَّا انْصَرَفْتُ قَدِمتُ على زكريا بنِ آدم فسألتُهُ عَمَّا احْتَجْتُ إليه"[7].
وفي نظر الأصولي هو المجتهِدُ القادر على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها. ويرى أنَّ استناده في الاستنباط على أصول وقواعد مُفادة من النصوص الشريفة، وهو ما يطلبه الشارع المقدَّس.
يظهر أنَّ الدعوى منهما واحدة، فحقَّ أن يُقال[8] " أنَّ خِلاف الأخباريين فيه (التقليد) لفظي؛ لأنَّ المحكي عنهم دعوى أنَّ ما صدر من مُعاصري الأئمة (عليهم السلام) واستمرت عليه سيرة السلف والخلف ليس من التقليد؛ بل هو نظير قبول الرواية المنقولة بالمعنى الذي لا إشكال في جوازه، وأنَّه لا يجوز تقليد من يجتهد في تحصيل الحُكم برأيه؛ إذ يجب أخذ الحكم عن المعصومين (عليهم السلام) لا عن غيرهم.
ثُمَّ يُعقِّب (دام ظلُّه): "ونحن مُتَّفِقون معهم في عدم جواز أخذ الحكم عن غير المعصومين (عليهم السلام)، وأنَّ تقليد غيرهم إنَّما يجوز لأجل معرفة الحكم الصادر منهم (عليهم السلام)، لا مع إعمال رأيه من دون رجوع إليهم (عليهم السلام)، فهم متَّفِقُونَ مع الأصوليين في جواز التقليد الشائع بين الشيعة وإن خالفوهم في تسميته وتفسيره".
إلَّا أنَّ ما يظهر للنظر القاصر أنَّ ما يدونه الأخباري من مسائل شرعية لا يتغير؛ إذ أنَّه لا يرجع إلى مبنى خاص أو ما شابه إلَّا في حدود نفس النص. أمَّا الأصولي فهو -في نظر الأخباري- يدوِّن رأيه المبتني على مبانيه الخاصَّة، فيكون خاضعًا للمراجعة الدائمة والتبدل، وذلك مع ادعائه الاستناد إلى النصوص والقواعد المرضية للشارع المقدَّس.
من هنا يظهر أنَّ الفرق -الذي يهمُّنا في المقام- بين الأصولي والأخباري إنَّما هو من جهة العامِّي المُقَلِّد، لا من جهة الفقيه؛ إذ أنَّه بالتزامه قول الفقيه الأخباري يكون ملتزمًا قول المعصوم (عليه السلام)، أمَّا بالتزامه قول الفقيه الأصولي فلحجيته كفقيه مجتهد جامع للشرائط.
وبعبارة أخرى: في تقليد الأخباري يقطع العاميُّ بالحكم تبعًا لقطع الفقيه. أمَّا في تقليد الأصولي فقطع العاميُّ المُقلِّد موضوعيٌّ بالنسبة للفقيه، كقطع القاضي بالنسبة للشهود البينة.
وبذلك تتنقح عندنا مسألة تقليد الميت ابتداءً أو بقاءً؛ وبيان ذلك:
يسوغ للعاميّ التزام فتوى الفقيه الأصولي الحي ليقينه بعدم تبدُّل رأيه، وإن شكَّ استصحب يقينه السابق، وإنَّما يقع الكلام في المسوِّغ للبقاء على تقليده بعد موته أوَّلًا، ولتقليده ابتداءً ثانيًا.
أمَّا الأوَّل فلا يصحُّ الاستصحاب كما هو واضح، فهل يصحُّ اليقين وعدم عروض الشك في خصوص ما يمكن تبدله من فتاوى؟
الظاهر عدم الصحَّة، فيفتقر البقاء إلى مسوِّغ شرعي. إلَّا أن يكون الميِّتُ هو الأعلم، ومع ذلك لا يكون للشكِّ أثرٌ؛ إذ أنَّ العدول عن الميت الأعلم إلى من هو أدون منه مِنَ الأحياء عدولٌ من الأجود إلى الجيد، وهذا لا يقرِّه العقلاء، إلَّا أن يُعلَم بأجودية فتوى بعينها فيعدل في خصوصها دون غيرها.
أضِف إلى ذلك أنَّ نفس التقليد إذا حملناه على جعل المسؤولية في رقبة الفقيه، فلا رقبة بموته، ومع احتمال تبدُّل الفتوى لا يبعد أن يكون تقليده ظلمًا له. فتأمَّل.
وقريب من هذا المعنى تقرير العلَّامة؛ إذ قال: إذا أفتى غير المجتهد، بما يحكيه عن المجتهد، فإن كان يحكي عن ميِّتٍ، لم يجز الأخذ بقوله؛ إذ لا قول للميت"[9]. والتقريب من جهتين:
الأولى: مع وثاقة غير المجتهد الذي يفتي بما يحكيه عن المجتهد فإنَّه لا يمكن الوثوق ببقائها، ولا يصح الاستصحاب، فهي في حكم العدم، وهو قوله: "إذ لا قول للميت". ويظهر من هذه الجهة أن لا موضوعية لشخص غير المجتهد إذا أفتى بما يحكيه عن المجتهد.
الثانية: مع وثاقة غير المجتهد الذي يفتي بما يحكيه عن المجتهد فإنَّ حكم الرسالة العملية حكمه.
وعلى ما عليه العلَّامةُ جماعةٌ، منهم: فخر المُحَقِّقين[10]، وأرجعه الشهيد الأوَّل إلى ظاهر العلماء[11]، والمُحقِّق الكركي[12]، والشهيد الثاني[13]، وغيرهم؛ مُعَلِّلين بكون الميت (لا قول له)، وهو محل الشاهد.
ولا كلام في حكم تقليد الفقيه الميت الأصولي ابتداءً.
أمَّا تقليد العاميّ للفقيه الأخباري فليس فيه عروض الشك، وبالتالي فإنَّ اليقين على حاله.
بذلك تظهر:
1- الوجوه في الآراء الخمسة التي ذكرها سماحة الفاضل الماحوزي (دامت توفيقاته) في مطلع بحثه المنيف.
2- أنَّ التقليد هو رجوع الجاهل إلى العالم أو إلى أهل الخبرة بقيد زائد هو الحجية الشرعية المُؤَمِّنَة من العقاب الأخروي، وبذلك يفترق رجوع الجاهل إلى العالم في التقليد الفقهي عنه في سائر الموارد مثل الطب والهندسة وما نحو ذلك.
3- أنَّ الرجوع في التقليد إلى الميت لا يُقاس على الرجوع إلى شعر الميت أو ما شابه من الأمثلة التي ذكرها سماحة الفاضل الماحوزي (دام عِزُّه وارتفع شأنه).
.............................................
[1] - التنقيح في شرح العروة الوثقى، تقريرات بحث السيد الخوئي للشيخ علي الغروي/ ج1 ص58 (مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي)
[2] - الفقه، السيد محمَّد الشيرازي/ ج1 30 (دار العلم)
[3] - مقاييس اللغة، ابن فارس، (قلد).
[4] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 6 - ص 413 (دار الكتب الإسلامية)
[5] - الاحتجاج - الشيخ الطبرسي - ج 2 - ص 263 – 264 (دار النعمان للطباعة والنشر)
[6] - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) - الشيخ الطوسي - ج 2 - ص 784 (مؤسَّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث)
[7] - الاختصاص - الشيخ المفيد - ص 87 (دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع)
[8] - مصباح المنهاج، السيد محمَّد سعيد الحكيم، ج1 ص8 (مؤسَّسة الحكمة للثقافة الإسلامية)
[9] - مبادئ الوصول إلى علم الأصول، العلَّامة الحلي، صفحة 248، المبحث السابع "في افتاء غير المجتهد" من مباحث الترجيح بين الأخبار (دار الأضواء)
[10] - إيضاح الفوائد، ج1 ص399 (المطبعة العلمية – قم)
[11] - ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ج1 ص45 (مؤسَّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث)
[12] - جامع المقاصد، ج3 ص491 (مؤسَّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث)
[13] - مسالك الأفهام، ج3 ص109 (مؤسَّسة المعارف الإسلامية)