بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
كَتَبَ الأخُ الكَريمُ، صَاحِبُ السَّمَاحَةِ والفَضْلِ الشَّيخُ حَسَنُ ابْنُ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ آلِ سَعيدٍ (حَرَسَهُ اللهُ تَعَالىَ، وَزَادَه عِلْمًا وَفَهْمًا، وَوَرَعًا وَتَقوَى) مَقَالَةً بِعُنْوَانِ (حول معرفة الزوال بزيادة الظل بعد نقصانه وعدم دقة ذلك)[1] انتهى فِيهَا إلى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ عُنوَانِها، مُنْتَصِرًا لِكَونِ المُعتَمد في تَحْديدِ وُقُوعِ الزوَّال هُوَ مَا يَكْشِفُ عَنْ أوَّلِ آنٍ له، الأدَقُّ فَالأدَق.
قَالَ (حَمَاهُ اللهُ تَعَالى مِنْ طَوَارِقِ الليلِ وَالنَّهَارِ):
"والتحقيق أن هذه العلامة إنما يعرف بها الزوالُ بعد مضيّ وقت غير قليل على حدوث الزوال الحقيقي كما نصّ على ذلك الهيويّون وفقهاء المسلمين عامةً وفقهاء الإماميّة خاصّة، كالنائيني في كتاب الصلاة والهمداني في مصباح الفقيه ووالد صاحب الحدائق في شرحِ عبارة زوال اللمعة وغيرهم في غيرهم مما لا يحصيه العدّ. ولا ريبَ في أنّه ليس لهذه العلامة ولغيرها من العلامات المذكورة للزوال في النصوص الشريفة - وهي ميل الشمس للحاجب الأيمن لمن استقبل القبلة - أو لغيره من المواقيت موضوعيّة وذاتية، وإنما الواجب هو تحقيق العلم بالزوال سواءٌ بهذه العلامات أم بغيرها، وعلى ذلك كلام المشهور المتضافر الذي لا يعرف له خلافٌ في كلمات الإماميّة إلا نادرًا".
أقُولُ: طوائِفُ الروايات الشريفة في المقام:
الطائفة الأولى؛ في أنَّ وقت الظهرين إذا زالتْ الشمس. مِنها:
رَوَى زُرَارةُ عن أبي جعفرٍ (عليه السَّلام) أنَّه قال: "إذا زَالَتِ الشمسُ دَخَلَ الوقْتَانِ؛ الظهرُ والعصرُ، فإذا غابَتِ الشمسُ دَخَلَ الوقْتَانِ؛ المَغرِبُ والعشَاءُ الآخِرَةُ"[2].
وعَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: "إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاتَيْنِ، إِلَّا أَنَّ هَذِه قَبْلَ هَذِه"[3].
وَعَنْ دَاودِ بنِ فَرْقَدٍ، عَنْ بَعْضِ أصْحَابِنَا، عن أبي عَبْدِ اللهِ (عليه السَّلام)، قَالَ: "إذَا زَالتِ الشمسُ فَقَد دَخَلَ وَقتُ الظُهرِ حَتَّى يَمْضِي مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي المُصَلِّي أرْبَعَ ركعَاتٍ، فإذَا مَضَى ذَلِكَ فَقَد دَخَلَ وقْتُ الظُهْرِ والعَصْرِ حَيثُ يَبْقَى مِنَ الشمسِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي المُصَلِّي أرْبَعَ ركعَاتٍ، فإذَا بَقيَ مِقْدَارُ ذَلكَ فَقَد خَرَجَ وَقْتُ الظُهْرِ وَبَقيَ وَقْتُ العَصْرِ حَتَّى تَغيبَ الشمسُ"[4].
والرواياتُ مُتَواتِرَةٌ في أنَّ وقْتَ الظُهْرَينِ إذا زَالتِ الشمسُ، قال ابنُ فارِس: "(زَوُلَ) الزَّاءُ وَالْوَاوُ وَاللَّامُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى تَنَحِّي الشَّيْءِ عَنْ مَكَانِهِ. يَقُولُونَ: زَالَ الشَّيْءُ زَوَالًا، وَزَالَتِ الشَّمْسُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ تَزُولُ. وَيُقَالُ أَزَلْتُهُ عَنِ الْمَكَانِ وَزَوَّلْتُهُ عَنْهُ"[5]، وقال ابنُ منظور: "الزَّوَالُ: الذَّهَابُ وَالِاسْتِحَالَةُ، وَالِاضْمِحْلَالُ"، إلى أنْ قال: "وَزَالَ الشَّيْءُ عَنْ مَكَانِهِ يَزُولُ زَوَالًا وَأَزَالَهُ غَيْرُهُ وَزَوَّلَهُ فَانْزَالَ"[6].
إنَّنا لو رسمنا خطًّا يُنَصِّفُ كُلًّا مِنْ السَّماء والشمس، فإنَّ الشمسَ عند مطابقة منتصفه لمنتصف السماء تكون في كبدها، وعند تحرُّكها غربًا تكون قد بدأت الزَّوال، أي الذَّهاب عن خصوص هذا الموقع، وهو بحسب الواقع الدقِّي زوالٌ، غير أنَّه لا يُلحَظُ مِن أهل الأرض، ومِن هنا ينشأ الشكُّ في أنَّ الزَّوال في لسان الشارع المُقدَّس هو أوَّل آنات حركة الشمس مِنَ مُنتَصف السَّماء إلى الغرب، أو أنَّه الآن الذي يلحظه أهل الأرض.
إنْ حمَلنا على الأوَّل فَلَا مُخرِجَ، في خصوص هذه الطائفة مِنَ الروايات، لأوَّلِ آنات الزوَّال الواقعي، فَيَتَعَيَّنُ أنَّ أوَّل وَقتِ الظُهرِ هُو الآنُ الأوَّل مِنه، ومَتى مَا ظَفَرْنَا بِطَريقٍ نُحرِزُهُ بِه يَقينًا فهو المُعتَمَد حِينَذَاك. وإلَّا فالشكُّ قائمٌ والمجرى للاحتياط.
الطائفة الثانية؛ في مَا يُعرَفُ بِهِ زَوَالُ الشمسِ. منها:
بإسناد الشَّيخ الصدوق عَنْ أحمَدَ بنِ مُحمَّد بنِ عِيسَى، رَفَعَهُ عَنْ سمَاعَة، قَالَ: قُلتُ لأبي عبد الله (عليه السَّلام): "جُعِلتُ فدَاكَ؛ مَتَى وقْتُ الصَّلاةِ؟ فَاقْبَلَ يَلْتَفِتُ يَمينًا وشمَالًا كأنَّهُ يَطْلُبُ شَيئًا. فَلَمَّا رَأيتُ ذَلِكَ تَنَاولْتُ عُودًا، فَقُلتُ: هَذَا تَطْلُبُ؟ قَالَ: نَعَم. فَأخَذَ العُودَ فَنَصَبَ بِحيالِ الشمسِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ الشمسَ إذا طَلَعَتْ كانَ الفيءُ طَويلًا، ثُمَّ لا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى تَزُولَ الشمسُ، فإذا زَالَتْ زَادَتْ، فإذَا اسْتَبَنْتَ الزيَادَةَ فَصَلِّ الظُّهْرَ، ثُمَّ تَمَهَّلْ قَدرَ ذِرَاعٍ وَصَلِّ العَصْرَ"[7].
وعن عليِّ بنِ أبي حَمْزَةَ، قَالَ: "ذُكِرَ عِندَ أبي عبدِ اللهِ (عليه السَّلام) زَوَالُ الشمسِ. قَالَ: فَقَالَ أبو عَبدِ الله (عليه السَّلام): تَأخُذُونَ عُودًا طُولُهُ ثَلَاثَةُ أشْبَارٍ، وإنْ زَادَ فَهوَ أبْيَنُ. فَيُقَام، فَمَا دَامَ تَرَى الظِلَّ يَنْقُصُ فَلَمْ تَزَلْ، فإذَا زَادَ الظِلُّ بَعْدَ النُّقْصَانِ فَقَدْ زَالَتْ"[8].
وقال الصادِقُ (عليه السَّلام): "تِبيَانُ زَوَالِ الشمسِ أنْ تَأخُذَ عُودًا طُولُهُ ذِرَاعٌ وَأرْبَعُ أصَابِعَ، فَتَجْعَل أرْبَعَ أصَابِعَ في الأرْضِ، فإذَا نَقَصَ الظِلُّ حَتَّى يَبْلُغَ غَايَتَهُ، ثُمَّ زَادَ فَقَدْ زَالَتِ الشمسُ، وَتُفْتَحُ أبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتَهُبُّ الريَاحُ، وَتُقْضَى الحَوَائِجُ العِظَامُ"[9].
فَلَا شَكَّ في الاعْتِبَارِ الشَّرعي لِزِيَادَةِ الظِلِّ بَعدَ نُقْصَانِهِ، أو حُدُوثِهِ بَعدَ انْعِدَامِهِ عَلامَةً على دُخُولِ وَقتِ الظُهر، ولا يظهر دليلٌ على عناية الشارع بتحرِّي الدقة في إحراز أوَّل آنات الزَّوال الواقعي على الفرض المذكور من أوَّل حركة تعقب مطابقة المنتصفين.
الطائفة الثالثة؛ في أنَّ أوقات الصلاة مشهورة شهرة تعمُّ أهل الأرض:
عن الفضل بن شاذان، عن الإمام الرضا (عليه السَّلام) في بيان بعض العِلل، قال: "فإنْ قَالَ: فَلِمَ جَعَلَ الصلاةَ هَذِهِ الأوقات وَلمْ تُقَدَّمْ ولمْ تُؤخَّرْ؟ قيلَ: لِأنَّ الأوقَات المَشْهُورَة المَعْلُومَة التي تَعُمُّ أهْلَ الأرْضِ، فَيَعْرِفُهَا الجَاهِلُ وَالعَالِمُ أرْبَعَة؛ غُرُوب الشمسِ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ يَجبُ عِنْدَهُ المَغْرِبُ، وَسُقُوطُ الشَّفَقِ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ يَجِبُ عِنْدَهُ العشَاءُ الآخِرَةُ، وَطُلُوعُ الفَجْرِ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ يَجِبُ عِنْدَهُ الغَدَاةُ، وَزَوَالُ الشمسِ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ يَجِبُ عِنْدَهُ الظُهُرُ"[10].
يًظْهَرُ بِضَمِّ هذه الطائفة لِمَا قبلها أنَّ الزوال المَطْلُوب هُوَ المَشهور والمعروف عِنْدَ أهلِ الأرضِ دون حاجَةٍ إلى أن يكون عالِمًا بالفَلكِ ولو في حدود حركة الشمس مِنَ الشرق إلى الغرب، فالزوال هو الزوال الملحوظ عِند عامَّة النَّاس، العالِم منهم والجاهل، ولا يَظهَر في النصوص الشريفة ما يدُلُّ على حَثٍّ أو إرشَادٍ لتَحَرِّي والتِماسِ الزوال في آنِه الأوَّل بحسب الفرض المزبور.
الطائفة الرابعة؛ في ركود الشمس وأنَّها تؤامر أتَزول أو لا تزول:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنِ الرِّضَا (عليه السَّلام)، قَالَ: قُلْتُ لَه: "بَلَغَنِي أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَقْصَرُ الأَيَّامِ!
قَالَ (عليه السَّلام): كَذَلِكَ هُوَ.
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، كَيْفَ ذَاكَ؟
قَالَ (عليه السَّلام): إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى يَجْمَعُ أَرْوَاحَ الْمُشْرِكِينَ تَحْتَ عَيْنِ الشَّمْسِ، فَإِذَا رَكَدَتِ الشَّمْسُ عَذَّبَ اللَّه أَرْوَاحَ الْمُشْرِكِينَ بِرُكُودِ الشَّمْسِ سَاعَةً، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا يَكُونُ لِلشَّمْسِ رُكُودٌ رَفَعَ اللَّه عَنْهُمُ الْعَذَابَ لِفَضْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَلَا يَكُونُ لِلشَّمْسِ رُكُودٌ"[11].
وَسُئِلَ الصادِقُ (عليه السَّلام) عَنِ الشمسِ كيفَ تَرْكُدُ كُلَّ يومٍ وَلا يَكُونُ لهَا يَومَ الجُمُعَةِ رُكُودٌ؟
قال (عليه السَّلام): "لأنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ يَومَ الجُمُعَةِ أضْيَقَ الأيَّام.
فقيل له: وَلِمَ جَعَلَهُ أضْيَقَ الأيَّام؟
قال (عليه السَّلام): لِأنَّهُ لا يُعَذِّبُ المُشْركينَ في ذَلِكَ اليَوم؛ لِحُرْمَتِهِ عِنْدَهُ"[12].
وَرُويَ عَنْ حَريز بنِ عَبْدِ اللهِ أنَّهُ قَالَ: "كُنْتُ عِنْدَ أبي عَبْدِ اللهِ (عَليهِ السَّلام) فَسَألَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: جُعِلتُ فِدَاكَ، إنْ الشمسَ تَنْقَضُّ ثُمَّ تَرْكُدُ سَاعَةً مِنْ قَبْلِ أنْ تَزُول. فَقَالَ إنَّهَا تُؤامَرُ؛ أتَزُولُ أو لا تَزُول"[13].
مَذْهَبُنَا عَدَمُ تقديمِ شيءٍ، مهما كان، على ظاهر النصِّ الواردِ عنهم (عليهم السَّلام)، وقد نُسَلِّمُ بنتيجةٍ لتَجَارِبَ مخبرية في غير ما يخصُّ الدين؛ إذ عنده نُسلِّم بما جاء في النصوص دون أدنى مراجعة وتردُّد. وغاية ما يمكن أن نردَّ علم مثل هذه الأحاديث الشريف إلى أهلها، وهم أهل بيت العصمة (عليهم السَّلام) بعد التسليم بها واعتبارها في مقام الفهم والنظر. فافهم رعاك الله تعالى.
ثُمَّ أنَّه في روَايَتَي ابن بزيع وحريز لم يكن الإمامُ (عليه السَّلام) هو البادئ بالكلام عن ركود الشمس، ما يدلُّ على كونه ملحوظًا للسائِل، ولو أفاد أهل الفلك بعدم رصدهم لظاهرة ركود الشمس في أيام دون أخرى، قلنا بجواز عدم حدوثها في سنوات، بل قرون، ولكنَّها قد تحدث بحسب أمره جلَّ في علاه، والأمر سهلٌ وقد بيَّن الشارع المُقدَّس العلامة المعتبرة التي مضى عليها أهلُ بيت العصمة (عليهم السَّلام) والمسلمون إلى زمن قريب، وهي زيادة الظلِّ بعد نقصانه، أو حدوثه بعد انعدامه.
الطائفة الخامسة؛ في التيَقُّنِ مِن دخول الوقت:
عَنْ سمَاعَة بنِ مهْرَان، قَالَ: قَالَ لِي أبُو عَبْدِ اللهِ (عَليهِ السَّلام): "إيَّاكَ أنْ تُصَلِّي قَبْلَ أنْ تَزُول، فَإنَّكَ تُصَلِّي في وَقْتِ العَصْرِ خَيرٌ لَكَ أنْ تُصَلِّي قَبْلَ أنْ تَزُول"[14].
عَنْ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ العَطَّارِ، عَنْ أبيهِ، عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ (عليه السَّلام)، قال: لئِنْ أُصَلِّي الظُهْرَ في وَقتِ العَصْرِ أحَبّ إليَّ مِنْ أنْ أُصَلِّي قَبْلَ أنْ تَزُولَ الشمسُ، فَإنِّي إذا صَلَّيتُ قَبْلَ أنْ تَزُولَ الشمسُ لمْ تُحْتَسَبْ لِي، وَإذَا صَلَّيتُ في وَقْتِ العَصْرِ حُسِبَتْ لِي"[15].
وَقَالَ أبُو جَعْفَرٍ (عليه السَّلام): "لَئِن أُصَلِّي بَعْدَ مَا يَمْضِي الوقْتُ أحَبّ إليَّ مِنْ أنْ أُصَلِّي وَأنَا فِي شَكٍّ مِنَ الوقْتِ، وَقَبْلَ الوَقْتِ"[16].
بسطُ الكلام:
نُسَلِّم بعدم الخصوصية للشاخص، ولزيادة الظلِّ بعد نقصانه، أو حدوثه بعد انعدامه، غير أنَّ الزوال المدلول لهذه العلامة هو الزوال الذي نتيقن كونه المطلوب شرعًا، لا لحقيقة شرعية كما حاول الشَّيخ آل سعيد (حماه الله تعالى من طوارق الليل والنهار) دفعه، وإنَّما للقطع بأنَّه المقدار المتيقن مِنَ الزوال المطلوب؛ فالزوال يتحقَّق بأوَّل آنٍ من آنات ميل الشمس عن جهة الشرق إلى جهة الغرب، إلَّا أنَّ الحمل على إطلاق (إذا زالتْ) واعتبار أوَّل الآنات الواقعية هو وقت الظهرين مدفوع بعدم التعليق على (العلم) بالزوال، بل الظاهر من مدلول الطائفة الثالثة هو شهرة معنى الزوال عند عموم النَّاس، ولم يسأل أحدٌ عن حيثية الدقة في التماس أوَّل آنات الزوال الواقعي على فرض صورة انطباق المُنْتَصَفَين.
هذا أوَّلًا. وأمَّا ثانيًا فالظاهر عدم صحَّة اعتماد كون حركة الشمس منضبطة من جهة التسارع والتباطؤ بعد الوقوف على حقيقة أنَّها تؤامر فيطول اليوم ويقصر بحسب الأمر الإلهي، ومن ذلك ما يقع في يوم الجمعة كما تدلُّ عليه روايات الطائفة الرابعة.
ولو راقب أهل الاختصاص الأيَّام لسنوات، ولم يجدوا قصرًا في يوم الجمعة، فهذا لا ينفي أنَّ يقع متى ما أراد جلَّ في عُلاه، بل ولا يمتنع وقوعه في غير الجُمَع، ما يمنع الاعتماد على التقاويم القائمة على الحسابات.
وثالثًا، فإنَّنا لو سلَّمنا بصحة ومطابقة حسابات الزوال لمقداره المطلوب شرعًا، فإنَّنا لا نُسلِّم بكون انتصاف السماء بخطٍّ هندسي دقيق، لا سيَّما مع عِظَمها وعِظم الشمس، وقياس الحركة على الأرض، فإنَّ الانتقال الدقيق للشمس مِنَ الشرق إلى الغرب غير ملحوظ، بل هو لا يُلحظ في الأرض، إلَّا أن يكون انتقالًا يناسِبُ الثلاثة من حيثُ الحجم، وعليه فإنَّه لا مانع من أنْ يكون الزوال بالخروج الكُلِّي لقرص الشمس عن الشرق خروجًا يمكن لأهل الأرض رصده، ويساعد على ذلك العلامة التي تظافرت النصوص على تعيينها، وهي زيادة الظلِّ بعد نقصانه، أو حدوثه بعد انعدامه، وبها يتحقَّق اليقين الذي تؤكِّد عليه روايات الطائفة الخامسة.
إعادة نظم:
يُقال: يتحقَّقُ أوَّلُ الزوالِ بأوَّل آنٍ مِن خروج نصف قرص الشمس عن خطِّ منتصف السماء، ويبقى زوالًا إلى انتفاء ملاحظة الشرق مع حركة الشمس، ويدور الأمر بين أن يكون المراد شرعًا هو الآن الأوَّل من الزوال أو لا، ويُقال أنَّ مقتضى الإطلاق هو دخول الوقت بمجرَّد تحقُّق الزوال، ولا مُخرِج لهذا الآن من تحت (إذا زالت).
فنقول: هذا صحيح بالنظر إلى نفس الشمس والسماء، غير أنَّ الملحوظ في المقام هو معرفة الزوال عند عموم أهل الأرض، لقول الإمام الرضا (عليه السَّلام) في جوابه على سؤال السبب من جعل خصوص هذه الأوقات للفرائض: "لِأنَّ الأوقَات المَشْهُورَة المَعْلُومَة التي تَعُمُّ أهْلَ الأرْضِ، فَيَعْرِفُهَا الجَاهِلُ وَالعَالِمُ ..."، والتماس دقَّة الزوال الواقعي تكلُّفٌ بلا مُوجِب، ولم نقف على ما يُشير إليه من الروايات الشريفة، بل الظاهر منها خلاف ذلك.
وثمَّة مُضعِّف للحسابات الفلكية، وهو أنَّ حركة الأفلاك ليست منتظمة انتظام القطار على سكَّة الحديد، لا من حيث المكان، ولا من حيث السرعة. قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[17]، وقال تبارك ذكره (لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[18]، إضافة إلى أنَّ الشمس تُؤامَر، فتنقضُّ وتركد امتثالًا لأمره سبحانه وتعالى. كلُّ هذا يباعدنا عن الاطمئنان للتقاويم، لا سيَّما للغداة والظهرين.
وبعد تحذير الإمام (عليه السَّلام) من عدم اليقين بدخول الوقت، فلا يبقى عندنا غير التزام الطريق المرضي شرعًا يقينًا، ولا تداخله شائبة شكٍّ، وبه التزم الأئمة (عليهم السَّلام) وأصحابهم، ومن جاء بعدهم من الفقهاء وأهل الدين.
السَّيد محمَّد السَّيد علي العلوي
غرَّة صفر 1444 للهجرة
البحرين المحروسة
.....................................
[1] - مُدَونَة كتابات: https://www.ketabat.org/writings/427
[2] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 216
[3] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 - ص 276
[4] - الاستبصار - الشيخ الطوسي - ج 1 - ص 261
[5] - معجم مقاييس اللغة – ابن فارس – مادَّة (زول)
[6] - لسان العرب – ابن منظور – مادَّة (زول)
[7] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 2 - ص 27
[8] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 2 - ص 27
[9] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 224
[10] - عيون أخبار الرضا (عليه السَّلام) - الشيخ الصدوق - ج 2 - ص 116
[11] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 3 - ص 416
[12] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 225
[13] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 225 - 226
[14] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 2 - ص 141
[15] - تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 2 - ص 254
[16] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج 1 - ص 223
[17] - الآية 33 من سورة الأنبياء
[18] - الآية 40 من سورة يس