بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله على خير خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله الطاهرين حجج الله، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
وبعد، فإنّي كنت قد كتبت في شهر محرمٍ الماضي حول ما تسنى لي إدراكه وتوضيحه في مسألة تأخّر معرفة الزوال بزيادة الظل بعد نقصانه عن نفس الزوال وأنّ المدار إنّما هو على تحقق العلم بالزوال[1]. وقد تفضّل صاحب السماحة والفضل السيّد محمد بن السيد علي العلوي (دام محروسًا) في ذلك الوقت بكتابة تعقيب على ذلِك ناقشه وردّه[2]، فبدا لي حينئذ أن أكتب ردًا على هذا التعقيب، سوى أنّ مشاغل وعاء الأيّام واشتغال البال بسائر المهام قد أخّرا في إظهارِ ذلك من نطاق الإرادة إلى حيّز الشهادة، وفيما يلي ما خطر في البال واقتضاه النظر والتأمّل في الأخبار وكلمات العلماء الأخيار في هذه المسألة، ومِنَ الله استمداد العون وعليه التكلان.
تقرير التعقيب
نظّم السيد (حفظه الله) نقدَه لكلامي في المسألة بالنحو التالي:
فذكر أولًا طوائف من الروايات الشريفة: جاءت أولاها في أن وقت الظهرين إذا زالت الشمس، وثانيتها في ذكر بعض الأخبار التي ذكرت ما به يعرف زوال الشمس، وثالثتها في أن أوقات الصلاة مشهورة شهرة تعم أهل الارض، ورابعتها في بعض الأخبار التي تدل على ركود الشمس واستئمارها في الزوال من عدمه بأمره تعالى. ثم قرّرَ أنّ مذهبنا هو عدم تقديم شيء على شيءٍ مهما كان إذا خالف ظاهر النص الوارد عنهم (ع) وأن التجارب المخبريّة إنما تسلّم فيما لا يخص الدين وفيه إنما نسلم بما جاء عنهم (عليهم السلام). وجاءت الطائفة الأخيرة من الروايات التي سردها حول موضوع التيقن من دخول الوقت للدول في الصلاة.
ثمّ بيّن (دام موفقًا) أنّه لا خصوصية للشاخص ولزيادة الظل بعد نقصانه أو حدوثه بعد عدمه، إلا أن الزوال المدلول لهذه العلامات طالما كان واردًا في الأخبار فإنّه هو المطلوب شرعًا لا أنّ ذلك لحقيقة شرعيّة كما بيّنتُ وأنّ الزوال مشهورٌ لدى سائر الناس كما بينت ثالثة طوائف الروايات دون حاجة للتحقيق الدقّي في ذلك. وأضاف قائلًا: إنّ الظاهر عدم صحة كون حركة الشمس منضبطةٍ من جهة التسارع والتباطؤ بعدما دلت الأخبار على أنها تؤامر فيطول اليوم ويقصر بحسب الأمر كما بينت رابعة طوائف الروايات، وأنّ أهل الاختصاص لو راقبوا الأيام ولم يجدوا قصرا في طول يوم الجمعة فهذا لا يمنع كونها تطول وتقصر كما دلت عليه الأخبار. وأضاف: لا نسلّم بكون انتصاف السماء عند الزوال يكون بخط هندسي دقيق سيما مع عظم السماء وعظم الشمس وقياس الحركة على الأرض، ولا مانع من كون الزوال بالخروج الكلي لقر الشمس عن الشرق خروجا يمكن لأهل الارض رصده ويساعد على ذلك العلامة التي تظافرت النصوص على تعيينها وهي الزيادة بعد النقصان أو الحدوث بعدم العدم.
وختم (أيده الله) بإعادة نظمٍ حاصله: إن قيل بأن أول الزوال يتحقق بأول آن من خروج نصف قرص الشمس عن خط منتصف السماء، فنقول: هذا صحيح بالنظر لنفس الشمس والسماء سوى أن الملحوظ في المقام معرفة الزوال عند عموم أهل الأرض لما جاء في خبر الرضا (ع) الذي سبق ذكره من كون الأوقات مشهورة معلومة تعم أهل الأرض. وزاد: إنه يوجد مضعف للحسابات الفلكية حاصلها أنّ الله تعالى يتصرف تكوينا في الشمس والقمر فيؤخرهما أو يقدمهما فليست حركتاهما منتظمتين انتظام القطار على سكة الحديد مما يبعدنا عن الاطمئنان للتقاويم، وأنّه لا يبقى بعد تحذير الإمام (ع) من عدم اليقين بدخول الوقت غير التزام الطريق المرضي شرعا يقينا وهو خصوص ما دلت عليه الاخبار.
هذا خلاصة ما أفاده السيد في نقده. وجوابُه التالي:
نقاش التعقيب
إنّ الغرضَ الأساسي مما كتبتُ ابتداءً كان مجرّد إيضاح الفرق بين الزوالين: الزوال المعلوم بزيادة الظل بعد نقصانه والزوال المبيّن هيويًا، وأمّا مسألة اليقين بدخول الوقت لترتيبِ الأثر الشرعي على ذلِك من وجوب المبادرة إلى الصلاة أو صحّة وقوع الصلاة فإنّه لا شكَّ فيه، للأخبار الطاهرة التي ذكرها السيّد، ولما هو معلوم من الشرع قطعًا من أنّ اليقين باشتغال الذمّة لا يزول إلا بيقينٍ آخر ببراءتها مما انشغلت به. كما وأنّه لا ريب في كون أول وقت الظهرين هو زوال الشمس.
وغاية الكلام في هذا المقام إنما هي في تحديد العلم بالزوال الذي تُرتَّب عليه الآثار الشرعيّة للزوال: هل هو محصور في خصوص ما دلّت عليه الأخبار من علامات لمعرفة الزوال؟ أم أنّ ما دلت عليه الأخبار إنما جاء بنحو الطرق الموصلة للعلم بالزوال دون أن يكون لهذه الطرق موضوعية في حد ذاتها؟
وعلى الثاني علماء الطائفة قديمًا وحديثًا، حيث إنّه المستفاد من أقوالِهم صراحةً وتلويحًا، والمقامُ غنيٌّ عن الاستشهاد له بكلام العلماء، ولا بأس بذكرِ جملة من أبرز موارد الإشارة إليه في كلام العلماء من القدماء والمتأخرين:
فقد ذكر الشيخ المفيد (ره) (ت: 413هـ) العلامات التي يمكن بها معرفة الزوال – الذي عبّر عنه بأنّه رجوع الفيء بعد انتهائه – فذكر الاصطرلاب والعمود المنصوب في الدائرة الهندية ونصب الشاخص وميل الشمس إلى الحاجب الأيمن، وذكر أنّ من العلامات ما يبين بها وقت الزوال بعد وقت متأخّر ومنها ما يبين بها في أول أوقاته كالاصطرلاب والدائرة الهندية وغير ذلك[3]. ومثله ظاهر الشيخ الطوسي (ره) (ت: 460هـ) في المبسوط[4] وصريحه في النهاية[5]،، وصريح ابن البرّاج (ت: 481هـ) في المهذب[6] من القدماء، والعلّامة الحلي (ت: 672هـ) في التحرير[7]، والشهيد الثاني (ت: 966هـ) في الروضة[8]، والفيض الكاشاني (ت: 1091هـ) في الوافي[9]، وصاحب الحدائق (ت: 1186هـ) في حدائقه[10]، وغيرهم في غيرهم بما لا يكاد يعرف فيه مخالف، وحاصل كلامهم أيّد الله الباقين منهم وقدّس أسرار الماضين في الجملة أنّ زوال الشمس يُعرف بعلامات منها ما كان أدقّ من غيره ومنها ما عُلِمَ به الوقت بعد دخوله بمضيّ مدة كنصب الشاخص العادي وكون الشمس على الحاجب الأيمن وأنّ المدار على تحقق العلم بالزوال المأمور به في قوله تعالى (أقم الصلاة لدلوك الشمس) بأي وسيلة وطريقةٍ كانت، فإذا حصل الاطمئنان بدخول الوقت كان ذلك مجزيًا، من دون الاقتصار على العلامات الوارِدة في الروايات، فقد خلت من مثل الاصطرلاب والدائرة الهنديّة وغير ذلِك.
نعم، تأمّل صاحب الجواهر (رحمه الله) (ت: 1261هـ) فذكر أنّ الأحوط مراعاة العلامة المنصوصة على الزوال[11]، إلّا أنّ ذلِك مدفوع بكون الزوال أمرًا واقعيًا كسائر الموضوعات التي رتبت عليها أحكامها وما ورد في الروايات لا يعني نفي ما عداه خصوصا مع إمكان الإحراز الوجداني بالزوال بغير ما ورد في الروايات، كذا أجاب الميرزا التبريزي (ره) (ت:1427هـ) كما في تنقيح مباني العروة الوثقى[12]. وإلى هذا الإشكال يرجع كلام السيّد العلوي (حفظه الله) في تعقيبه على ما كتبت في هذه المسألة.
والحالُ عدم صحّة هذا التأمل حتى مع غضّ النظر عمّا عليه تسالم علمائنا قديمًا وحديثًا، إذ أنّ هذا التأمّل إنما بُنيَ علي أمورٍ لا تسلمُ من النقاش وخدشة الاحتمال المبطل للاستدلال بها فضلًا عن مخالفة نتيجتها لأقوال العلماء كافة قديمًا وحديثًا بشتى مناهجهم الاستدلالية، وهي أمور ثلاثة:
الأوّل: أنّ الأخبار نصّت على علامات محددة فلا يجب التجاوز عنها.
الثاني: أنّ الأخبار نصّت على أن علامات مواقيت الصلاة، ومنها الزوال، مشهور معروفة لدى الجميع.
الثالث: أنّ الأخبار نصت على أن الشمس تؤامر فلا تزول ولا تتحرك إلا بإذن الله وأن حركة الفلك ليست منضبطة تمام الانضباط حتى يتم التعويل عليها في معرفة أوقات الصلوات.
وفيما يلي نقاش هذه الأمور الثلاثة:
الأمر الأوّل: دعوى أن الأخبار نصت على علامات محددة فلا يجب التجاوز عنها.
إنّ الوارد في كلام السيد المعقّب أنها طالما نصت الأخبار على كون الزوال يعرف بزيادة الظل بعد نقصانه أو حدوثه بعد عدمه فمن ثمّ يجب الالتزام بخصوص هذه العلامات دون ما عداها وأنّ في ذلك نوعًا من التعبّد المطلوب شرعًا.
والجواب على ذلِك أنّ ما جاء في الأخبار من علامات للزوال أنواع:
فمن الأخبار ما جاء في أنّ الزوال يعرف بزيادة الظل بعد النقصان، مثل خبر أبي حمزة الذي رواه في التهذيب قال: (ذكر عند أبي عبد اللّٰه عليه السّلام زوال الشمس فقال أبو عبد اللّٰه عليه السّلام يأخذون عودا طوله ثلاثة أشبار و إن زاد فهو أبين فيقام - فما دام يرى الظل ينتقص فلم تزل فإذا زاد الظل بعد النقصان فقد زالت)[13]، ومثله ما في التهذيب أيضًا عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك، متى وقت الصلاة؟ فأقبل يلتفت يمينا وشمالا كأنه يطلب شيئًا، فلما رأيت ذلك تناولت عودا فقلت هذا تطلب؟ قال: نعم، فأخذ العود فنصب بحيال الشمس ثم قال: إن الشمس إذا طلعت كان الفيء طويلا ثم لا يزال ينقص حتى تزول فإذا زالت زادت فإذا استبنت الزيادة فصلّ الظهر ثم تمهّل قد ذراع وصلِّ العصر)[14]. وما رواه في الفقيه من أنه تأخذ عودا طوله ذراع وأربع أصابع وتجعل أربع أصابع في الأرض فإذا نقص الظل غايته ثم زاد فقد زالت الشمس[15].
ومن الأخبار ما فصّل في زيادة ظل الشمس بعد نقصانه بحسب اختلاف أشهر السنة الشمسية، وهو ما رواه في الفقيه والتهذيب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (تزول الشمس في النصف من حزيران على نصف قدم و في النصف من تموز على قدم و نصف و في النصف من آب على قدمين و نصف و في النصف من أيلول على ثلاثة أقدام و نصف و في النصف من تشرين الأول على خمسة و نصف و في النصف من تشرين الآخر على سبعة و نصف و في النصف من كانون الأول على تسعة و نصف و في النصف من كانون الآخر على سبعة و نصف و في النصف من شباط على خمسة و نصف و في النصف من آذار على ثلاثة و نصف - و في النصف من نيسان على قدمين و نصف و في النصف من أيار على قدم و نصف و في النصف من حزيران على نصف قدم). قال علماؤنا: والظاهر أن هذا الخبر – وبملاحظة راويه – مختص بالعراق وما قاربها[16]، ونقل في الوسائل اختصاص الخبر بالمدينة وما قاربها[17].
وجاء في ما رواه الشيخ الطوسي في المجالس أنّ جبرئيل أتى رسول الله (ص) فأراه وقت الصلاة حين زالت الشمس فكانت على حاجبه الأيمن. قال الحر العاملي (ره) (ت: 1104هـ) في الوسائل بعد إيراد هذا الخبر: (أقول: لا يخفى أنه مخصوص بمكان قبلته نقطة الجنوب أو قريبة منها أو بمن استقبل الجنوب)[18].
ولا يخفى أنّ مقتضى فهم كل مجموعة من هذه الأخبار على حدة، مضافًا إلى فهم مدلولها المجموعي وما تدل عليه اقتضاءً، هو عدم اختصاص الزوال بخصوص العلامات الواردة في الأخبار وكون الأخبار إنما جاءت كواشف عن معنى الزوال، وإليك بيان هذا الاقتضاء:
أولًا: إنّ المجموعة الأولى من الأخبار، والتي دلت على استعلام الزوال بزيادة الظل بعد نقصانه، غير قابلة للانطباق في مجموعةٍ كبيرة من البلدان في أوقات مخصوصة في السنة، وهي كل البلاد الواقعة بين الميلين الأعظمين للشمس شمالًا وجنوبًا، أي 23,5 درجة تقريبًا شمال خط الاستواء وجنوبه وهما المداران المعروفان اليوم بمدار السرطان شمالًا ومدار الجدي جنوبًا، فإنّ كل بلد واقع على خطّي العرض هذين ينعدم الظل عند الزوال فيهما كليًا مرتين في السنة: مرة عند صعود الشمس وأخرى عند هبوطها، وذلك بسبب تعامد الشمس على رؤوس أهلها، وذلك معروف مشهور في مكة المكرمة مثلًا وغيرها من البلدان ويستفاد منه في تحديد القبلة وغير ذلك، وشرح ذلك وتفصيله موكول إلى محلّه[19].
وعليه فإنّه لا زيادة للظل بعد النقصان عند الزوال في هذه الأيام في هذه البلدان، ومن ثمّ يلزم عدم اطّراد الرواية في حين أن المفروض في كلام المستشكِل كونها في مقام ضرب الضابطة الكليّة، وقد خلت الأخبار من التدليل على الزوال بانعدام الظل بعد نقصانه، وعليه فلا يستقيم حمل هذه الرواية إلا على أنّها في مقام بيان علامة طريقية للزوال لا موضوعيّة لها، وأنّ المدار إنما على ما يحصل به الاطمئنان بحصول الزوال، وكيف لا يكون ذلِك وقد فصّل الإمام في خبر سماعة الكيفية الهيوية لحصول الزوال ورتّب عليها علاميّة زيادة ظل الشاخص بعد نقصانه، فإنّ سياق هذا الخبر دال أكيدٌ على عدم الموضوعيّة للعلامة وأن المدار إنما هو على تحقق الزوال كيفما اتفق العلم به.
ثانيًا: إنّ خبر عبد الله بن سنان المتقدم ذكره كثاني طائفة من الأخبار يجري فيه عين ما مرّ في الأمر الأول آنفًا، إذ أنّ تفصيل طول الظل باختلاف أشهر السنة الشمسيّة محصورٌ بمكان واحد هو العراق وما قاربها أو المدينة وما قاربها كما ذكروه عملًا مقتضيات علم الهيئة والتجربة، وعدم تفسير هذا الخبر في إطار مخرجات علم الهيئة يستلزِم عدم صدق الخبر على فرض صحته سندًا، وهو محال على المعصوم، ويستلزم وجوب اطّراح الخبر على فرض صحته سندًا، وهو غير مُبرّرٍ بعد انتقاء وجود المانع من فهمه فهمًا متسقًا مع سائر الأخبار، وهو ما قام به العلماء من تفسيره. ثم إن متن هذا الخبر يفيد أن الإمام (عليه السلام) عوّل في شرح كيفية الزوال على مواضع الشمس في أيام السنة، لما هو معلوم من حركة الشمس صعودا وهبوطا وتكمل دورة واحدةً على مدار السنة الشمسيّة، فكأن ما ذكره الإمام (عليه السلام) إنما هو من باب التطبيق لكبرى مضمرة هي الإرجاع لحركة الشمس الفلكيّة.
ثالثًا: إن عين ما ذُكِر في البندين الأولين جارٍ في خبر معرفة الزوال بكون الشمس على الحاجب الأيمن، من عدم صدقه في جميع البلدان وكونه متأخرًا زمانًا وكونه راجعًا في حقيقته إلى تطبيق كبرى الإرجاع لحركة الشمس الفلكيّة.
رابعًا: إن ضمّ الأخبار المذكورة لبعضها البعض، ينتج علمًا اطمئنانيًا مفاده أن الشارع المقدس ذكر عدة علامات يمكن من خلالها الاستعلام على زوال الشمس دون أن تكون علامةٌ مقدمة على علامة، بل إن بعض العلامات مما ذكرها الشارع غالبيّة لا دائميّة، والمفهوم من كل طائفة من الأخبار ومن مدلول مجموع الطوائف أنّ المدار إنّما هو على العلم بدخول الزوال كيف كان ذلِك. وكيفَ يمكن القول بأن الروايات حصرت العلامات في حين أنّ القرآن الكريم قد حدد ابتداء وقت الصلاة بالزوال ولم يبيّن العلامات ولم تكن الروايات نصًا أو ظاهرةً ظهورًا قويًا في التخصيص بل كان ظاهرها ومفهومها ومقتضاها هو عدم التخصيص؟
الأمر الثاني: أنّ علامات مواقيت الصلاة معروفة مشهورة.
إن حاصل ما أفاده السيد المستشكل (وفقه الله) في هذا الأمر وفقا لما أدركه فهمي القاصر هو أنّ الأخبار قد دلّت على أنّ الشارع الحكيم قد جعل مواقيت الصلاة بنحو ما هو عليه لكونها معروفة مشهورة، ومثل المحاسبات الفلكية الدقيقة والدائرة الهندية والاصطرلاب أمورٌ تخفى على عامّة الناس، ومن ثم فإن ذلك يؤيّد انحصار العلامات بما ذكرته الروايات الشريفة.
قلت: إنّه لا ريب في أن الشريعة الغراء قد بنيت على السماحة والسعة والسهولة، والأخبار الطاهرة التي ذكره السيد في تعقيبه لعلها راجعة لهذه الكبرى المتصيّدة من نصوص قرآنية ومعصومية متعددة، وإنّ مواقيت الصلاة تعرف بطلوع الشمس وزوالها وغسقها وانبلاج الفجر مما يتسنى للجميع مشاهدته ومعرفته، دون مثل كون الشمس في الجوزاء أو كونها في العقرب وغير ذلك مما لا يتسنى معرفته إلا لخواص الناس دون عامتهم، وهو منافٍ من حيث السهولة والسماحة الشرعية لجعله علامةً لمواقيت الصلوات الخمسة الواجبة.
إلا أنّ إثبات كون الشريعة قد جعلت هذه المواقيت لكون كافة الناس يتسنى لها معرفتها ليس علةً قطعيةً لحكم مواقيت الصلاة فتدور مع معلولها وجودًا وعدمًا، وإثباتُ هذه العليّة بنحو قطعي يصلح لتأسيس حكم شرعي عليه متعسّر، وبالتالي فمجرّد وجود هذه العلة أو الحكمة من هذا التشريع لا يعني بالضرورة أنه لا بدّ في المواقيت من أن تكون معروفةً لعامة الناس وأنه إن عُلِم الزوال بغير العلامات المعروفة لا يصح ترتيب الحكم الشرعي عليه ما لم تتحقق هذه العلامة، خصوصًا وما مرّ في نقاش الأمر الأول من أن ما جاء في الأخبار في حقيقته إرجاعٌ إلى الكبريات التي بني عليها نظام هذا الكون وإلى أن الأخبار بحد ذاتها ليست صريحة في تخصيص الدليل الكتابي المحيل إلى الزوال مجردًا عن أي قيد.
الأمر الثالث: أنّ الأخبار نصت على أن الشمس تؤامر فلا تزول ولا تتحرك إلا بإذن الله تعالى وأن حركة الفلك ليست منضبطة تمام الانضباط حتى يتم التعويل عليها في معرفة أوقات الصلوات.
وقد استدلّ السيد في تعقيبه على هذا الأمر بمجموعة من الأخبار الشريفة التي دلّت على أن الشمس عند زوالها تركد فتؤامر فلا تتحرك إلا بإذن الله تعالى.
والجواب على ذلك من وجوه متعددة:
منها: ما ذكره الفيض (ره) في الوافي، قال: (قد ثبت في محله أن كل حركتين مختلفتين لا بد بينهما من سكون فبعد بلوغ نقصان الظل إلى الغاية و قبل أخذه في الازدياد لا بد و أن يركد شعاع الشمس في الأرض ساعة ثم يزيد و هذا ركودها في الأرض من حيث شعاعها بحسب الواقع و قد حصل بتبعية الظلال كما أن تسخينها و إضاءتها إنما يحصلان بتبعية انعكاس أشعتها من الأرض و الجبال على ما زعمته جماعة و هذا لا ينافي استمرار حركتها في الفلك على وتيرة واحدة. و المؤامرة المشاورة يعني أنها تشاور ربها في زوالها و ذلك لأنها مسخرة بأمر ربها لا تتحرك و لا تسكن إلا بإذن منه عز و جل و زمان هذا السكون و إن كان قليلا جدا إلا أن الشمس لما لم يحس بحركتها طرفي هذا الركود فهي كأنها راكدة ساعة)[20]، والمستفاد من ذلِك أنّ الركود إنما وقع على جهة المجاز دون الحقيقة، فهي مستمرة في حركتها الفلكيّة التي سخرها الله تعالى لها (والشمس تجري لمستقرٍ لها ذلِك تقدير العزيز الحكيم)، إلا أنّها عند الزوال ولمّا كان لم يُحسّ بحركتها عنده فتبدو وكأنها راكدة، من دون أية منافاة لذلِك مع أمر الله سبحانه وتعالى.
ومثله ما ذكره غواص البحار المجلسيّ (ره) (ت: 1111هـ) في البحار في موارد متعددة من كتاب السماء والعالم مما مفاده أنّ التعبيرات الروائية الواردة في مثل ركود الشمس ومثل شروقها بين قرني الشيطان ومثل سجودها لله عند غيبتها وغير ذلك، كلها تعبيرات مجازيّة صدرت على ما تقتضيه لغة العرب من التشبيه والمجاز والاستعارة والتمثيل، وأنّ المرد من ذلِك في بعض الموارد – ومنها مورد خبر مؤامرة الشمس في الزوال – بيان أن جميع المخلوقات مقهورة بقهره سبحانه وتعالى مسخرة لأمره وأن كل ما يقع منها إنما هو بتدبيره تعالى[21]. ولعل إلى ذلك يرجع كلام صاحب الحدائق (ره) بعد إيرادِه لهذا النوع من الأخبار حيث استدلّ بها على ردّ مذهب العلامة (ره) في المنتهى من أن علامة الزوال هو عدم النقص لا أنه الزيادة بعد النقص فقال: (وقد دلت هذه الأخبار على أن الشمس بوصولها إلى دائرة نصف النهار يحصل لها ركود ووقوف عن الجريان وهو غاية قصان الظل وأن الزوال إنما يحصل بعد ذلك وهو ميلها عن الدائرة إلى جهة المغرب)[22].
ومنها: أنّ مثل هذه الأخبار المخالِفة في ظاهرها لما استقرّ عليه الدليل القطعي المقدّم على أي دليل آخر لم يفِد القطع أو أفاده ولكن بمخالفة لحكم العقل القطعي يُردُّ إلى أهله تسليمًا وتفويضًا على تقدير صحتها، لكونها من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم.
***
وقد ظهر مما تقدّم عدم صحة التأمل في كون ما ذُكِرَ في الأخبار الشريفة هو ما به يُحرز دخول الزوال وأنّ الصحيح ما عليه كافة العلماء إلا من ندر من كونِ المدار على تحقق العلم بالزوال كيفما اتفق من وسيلةٍ علمية وجدانيّة، دون مجرد الظنّ والتخمين.
هذا ما خطر في البال وجرى به قلم المقال، وأرجو ممن يقع على هذا الكلام أن لا ينساني ووالديَّ من صالح الدعاء بالتوفيق والرحمة والمغفرة في الدنيا والآخرة، والحمد لله أولًا وآخرًا.
حسن
17 ربيع الأوّل 1444هـ
14 أكتوبر 2022م
..............................
[1] Https://www.ketabat.org/writings/427.
[2] Https://www.ketabat.org/disussions/27.
[3] المقنعة، ط جماعة المدرسين بقم المقدسة – 1410هـ، ص92-93.
[4] المسبوط، ط المكتبة الرضوية بطهران – 1387هـ، ج1، ص73.
[5] النهاية، ط دار الكتاب العربي ببيروت – 1400هـ، ص58.
[6] المهذب، ط جماعة المدرسين بقم المقدسة – 1406هـ، ج1، 72.
[7] التحرير، ط مؤسسة الإمام الصادق (ع) بقم المقدسة – 1420هـ، ج1، ص178.
[8] الروضة البهية، ط جامعة النجف الدينية بالنجف الأشرف – 1410هـ، ج1، ص477 وما بعدها.
[9] الوافي، ط مكتبة الإمام أمير المؤمنين (ع) بأصفهان – 1406هـ، ج7، ص250.
[10] الحدائق الناضر، ط جماعة المدرسين بقم المدسة – 1363 هجري شمسي، ج6، ص156 وما بعدها.
[11] الجواهر، ط دار إحياء التراث العربي ببيروت – لا ت، ج7، ص103.
[12] التنقيح، ط دار الصديقة الشهيدة بقم المقدسة – 1431هـ، ج1، ص166.
[13] وسائل الشيعة، ح4804.
[14] وسائل الشيعة، ح4803.
[15] وسائل الشيعة، ح4806.
[16] الوافي، ج7، ص251 وغيره.
[17] الوسائل، ط مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) بقم المقدسة – 1416هـ، ج4، ص164، ذيل الحديث 4805.
[18] الوسائل، ذيل الحديث 4807.
[19] لكاتب هذه السطور شرحٌ متوسط التفصيل لهذه المسألة وأضرابها من المسائل الهيويّة المحوج إليها في مباحث الصلاة ضمن ما كتبه من تعليق وتحقيق على رسالة شرح مبحث الزوال لوالد صاحب الحدائق (ره)، وهي في طور النشر في أحد المجلات العلميّة.
[20] الوفي، ج7، ص252.
[21] بحار الأنوار، ط دار إحياء التراث العربي ببيروت – 1403هـ، ج55، ص171.
[22] الحدائق الناضرة، ج6، ص158.