تناول سماحةُ الشيخ عبد العظيم المهتدي البحراني (دامت توفيقاته) نظرية (شورى الفقهاء المراجع) في بحث بعنوان: هل شورى المراجع حلٌّ لواقعنا المأزوم - بحثٌ عَقَديٌّ، فكريٌّ، فقهيٌّ، بنظرةٍ واقعيّةٍ وهادفة.
قرأتُ قبل بحث سماحة الشيخ المهتدي (حفظه الله تعالى) الدراسةَ الأصولية والفقهية في شورى الفقهاء لسماحة السيد مرتضى الشيرازي (دام عزُّه)، وكذا ما كتبه فيها وحولها والده (قُدِّس سرُّه). وقد وقف النظرُ القاصر على حاجة البحث للوفاء بحق مبادئه قبل تقرير النتائج؛ لما للمبادئ من أثر في مقدِّمات النظر والاستدلال. فناسب أن يكون كلامي على نحو التنبيهات أكثر ممَّا هو مناقشة في الأدلة المُساقة؛ حيث إنَّ المُرتكز فيه هو المبادئ، لذا، أُشير إلى رؤوسها ثُمُّ أحاول إظهار أثرها في تحديد سعة وضيق الأدلة، مكتفيًا ببعضها.
أوَّلُ الكلام:
- لا شكَّ في حُسن الشورى وقيام السيرة عليها، بل وقد تجب في الأمور الخطيرة فيما إذا كانت طريقًا لدفع ضررٍ مُحتمل أو ما شابه. ثُمَّ أنَّها قد تكون بين القائد ووزرائه أو ولاته أو مستشاريه لأمرٍ يخصُّ الرعية أو الأمَّة، وقد تكون بين جماعةٍ لأمر يخصُّهم.
البحثُ في شورى الفقهاء المراجع هو بحث الشورى بين الأقران (الفقهاء المراجع) لِمَا يخصُّ الأمَّة. في المقام فرضان:
الأوَّل: أن تكون الشورى بين الفقهاء المراجع مطلوبةً بغض النظر عن قيام الدولة الإسلامية أو لا.
الثاني: أن تكون مطلوبةً عند قيام الدولة الإسلامية.
الظاهر من البحوث المطروحة مطلوبية شورى الفقهاء المراجع مطلقًا.
ثُمَّ إنَّ البحث في كونها (الشورى) فعلَ كمالٍ أعمُّ من أن يكون واجبًا، أو أنَّها واجبة. وإن كانت واجبة، فوجوبها إمَّا أن يكون عقليًا وإلَّا فشرعي.
ثُمَّ إمَّا أن يثبت الوجوب بدليل عام فيشمل كافَّة الموارد، وحينها يُبحَث عن الخارج تَخَصُّصًا أو تخصيصًا، وإلَّا فكلُّ مورد من غير الموارد الاعتيادية يحتاج إلى دليل خاص.
- إثبات الولاية العامَّة لشورى الفقهاء المراجع، فلا يخلو إمَّا أن تثبت لكلِّ فقيه، وإلَّا فللهيئة في شورى الفقهاء. ولا دليل على الثاني. أمَّا الأوَّل فإمَّا أن تكفي ولاية الواحد في الحكم (ولاية عامَّة)، وهو خلاف الفرض، وإلَّا فهي كذلك قوَّةً، وتنتقل إلى الفعل في شورى الفقهاء، فتكون الشورى جهةً موضوعيةً لفعلية الولاية العامَّة للفقيه المرجع.
- على القول بتعيُّن الشورى في الفقهاء المراجع، فإمَّا أن تكون على الكفاية أو العينية، وفي كلا الفرضين تكون متعينة قوَّةً في كلِّ فقيه آنما يكون مرجعًا، وهذا على فرض ورود (المراجع) قيدًا كما هو الظاهر من (شورى الفقهاء المراجع)، وإلَّا فهي كذلك بكونه فقيهًا.
إذا اتَّضح ذلك، فإنَّ المناقشة ليست لكلِّ دليل دليل إلَّا إذا ثبتت المبادئ، وإلَّا فردُّ أو انتقاضُ أحدها رافعٌ لحاجة الاستطراد في مناقشة الأدلة.
الآيات الشريفة:
- (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ).
- (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)
تتمة بعض المبادئ ونظر في الاستدلال:
أوَّلًا: شكل الحكم في الإسلام: قيادة مركزية لا مِصْدَاق لها غير المعصوم (عليه السلام)، ومِنْ تَحْتِهِ مُسَمَّيَات إدارية، مثل القُضَاة والولاة والجباة وما نحو ذلك.
في ظرف غيبة المعصوم (عليه السلام)، فإمَّا أن يسقط فرضَ الحكم أو لا، فإن تمَّ الأوَّل فلا كلام، وإن لا، فإمَّا أن يكون إقامة الحكم فرضًا واجبًا، أو أن يكون المؤمنون بالخيار وفي سعة من أمرهم. فرضنا في المقام التخيير، فمتى ما سنحت الفرصة كان المؤمنون بالخيار في أن يقيموا الحكم أو لا.
إذا وقع الخيار على إقامة الحكم، فهل يجري الشكلُ الأصل؟ أي: هل تكون القيادة مركزية؟
إن لم يكن كذلك فلا دليل على تعيُّن الشورى في شكل (شورى الفقهاء المراجع)، إلَّا أن تثبت الولاية العامَّة للفرد قوَّةً وفي هيئة شورى الفقهاء فعلًا.
ثانيًا: عموم دليل (الشورى):
الجهة الأولى: لا كلام في مطلوبية الشورى، إلَّا أنَّها ليست من الأحكام العقلية، بدليل إمكان الخروج عنها في بعض المواطن كما لو تفرَّد المعصوم (عليه السلام) بالقرار، والحكم العقلي لا يُخصَّص. بقي أن تكون شرعية صِرفة، أو عُقلائية صِرفة، أو عُقلائية مُؤيَّدة بدليل شرعي، ومع انتفاء الفرض الأوَّل بما هو ثابت في جريان الشورى في تاريخ المجتمعات والأمم، تخرج عن كونها من الموضوعات المُستنبطة، والمترتب على ذلك خروجها عن التحديدات الشرعية بالمعنى الأخص، فقد يكون شكل الشورى في زَمَنٍ أو مَكَانٍ غَيرَهُ في زمنٍ أو مَكَانٍ آخر، ولا يكون تغيير شكلها خارجًا عن موافقة الشارع المُقدَّس، بل لا يَسْتَلزِمُ تَغييرُ الشَكلِ إذنًا أو إجازةً أو تأييدًا من الفقيه الجامع للشرائط، بل يكفي إحراز عدم مخالفته للشرع.
الجهة الثانية: أمَّا دليل (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ففيه:
أوَّلًا: لا قرينة، غير احتمال السياق، على كون الجملة الخبرية في مقام الإنشاء (كما ذُكِر في البحث)، بل الأظهر أنَّها، في خصوص (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، لبيان صفة كمال في المؤمنين، وبالإضافة إلى الاستحباب في (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) يفقد السياق قوَّة القرينة على الإنشاء.
المتحصل: أنَّ المخالفة وعدم المشاورة ليست معصية، وإنَّما فقدان لجهة كمال في المؤمن. إلَّا أن تكون في أمر خطير يُوجِب تحصيل الرأي الأصوب.
ثانيًا: نقل سماحة الشيخ المهتدي (حفظه الله) عن سماحة الشيخ فاضل الصفَّار (حفظه الله): "قوله عزّ وجل (وَأَمۡرُهُمۡ) الظاهر في شؤون المسلمين وحيث إنّ حذف المتعلق يفيد العموم مضافاً إلى الإضافة إلى الضمير يدلّ على أن الواجب عليهم في كل شؤونهم المشورة، والمصداق الأعظم والأخطر في ذلك هو شؤون الحكم والسلطة كما لا يخفى".
وأضاف: "أنّ الآية في مجملها دالةٌ على الشورىٰ بين المؤمنين وهي تشمل الحاكم والرئيس من جهة أنه من مصاديق العام فضلاً عن الأولوية العقلية وقاعدة الاشتراك في التكليف بين الحاكم وبين المحكوم".
وفيه: أنَّ الشورى تارة لأمر خاص، كما لو دارت بين مجموعة تريد استخلاص الأصوب لأمر يخصُّها، وأخرى تكون للتصرُّف في أمر يخصُّ الغير، كما لو دارت بين المسؤولين لإدارة أمر يخصُّ مؤسستهم أو ما شابه.
لا كلام في حُسن الأوَّل، وأمَّا الثاني ففرعُ ولاية المتشاورين على من يتشاورون بخصوصهم، وهي إمَّا بجعل من الله تعالى، أو ببيعة من الناس، أو بما يوجبه عقدٌ مُعيَّن.
يظهر بذلك مقامُ الروايات الواردة في إعمال المعصوم (عليه السلام) للشورى في بعض المواطن، ومنها ما في الإرشاد، قال "فلمَّا سَمِعَ رسولُ الله (صلَّى اللهُ عليه وآله) باجتماع الأحزاب عليه، وقوَّةِ عزيمتهم في حربه، استشار أصحابه، فأجمع رأيهم على المقام بالمدينة، وحرب القوم إنْ جاؤوا إليهم على أنقابها" (الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 1 - ص 96).
ومنها ما في البحار عن تفسير القُمِّي، قال: "فلم يَزَل يسيرُ معهم حَيي بن أخطب في قبائل العرب حَتَّى اجتمعوا قَدَرَ عَشَرةِ آلافٍ مِنْ قريش وكنانة والأقرع بن حابس في قومه وعباس بن مرداس في بني سليم، فَبَلَغَ ذلك رسُولَ اللهِ (صَلَّى الله عليه وآله)، واستشار أصحابه وكانوا سبعمائة رجل، فقال سلمانُ: يا رسول الله، إنَّ القَليلَ لا يُقَاوِمُ الكثيرَ في المطاولة.
قال (صلَّى الله عليه وآله): فما نصنع؟
قال: نَحفِرُ خَنْدَّقًا يكونُ بيننا وبينهم حِجَابًا؛ فيُمكنُكَ منعهم في المطاولة، ولا يمكنهم أنْ يأتُونَا من كُلِّ وَجه، فإنَّا كُنَّا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دَهَمَنَا دَهْمٌ مِنْ عَدوِّنَا نَحْفرُ الخَنَادِقَ فيكون الحربُ من مواضع معروفة. فَنَزَلَ جبرئيلُ على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فقال: أشَارَ بِصَوابٍ، فَأمَرَ رسولُ الله (صلَّى اللهُ عليه وآله) ..." (حار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 20 - ص 217 – 218).
هي روايات يُفادُ منها حُسنُ المُشاورة، أمَّا فيما نحن فيه فقاصرة من جهتين:
- إفادة الوجوب الشرعي.
- إفادة وجوب الشورى بين الأقران.
نعم، لا كلام في قيام السيرة العقلائية على مشاورة أهل الاختصاص أو الخبرة أو التجرِبة، وهذا ما ظهر في بيان سلمان (رضوان الله تعالى عليه): "فإنَّا كُنَّا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دَهَمَنَا دَهْمٌ مِنْ عَدوِّنَا نَحْفرُ الخَنَادِقَ"، وبالتالي فكون الحكامُ واحِدًا أو فريقًا، فهذا لا أثر له في إقرار أو منع مشاورة أهل الاختصاص أو الخبرة أو التجرِبة.
أضِف إلى ذلك عدم منجزية رأي الشورى، بل حتَّى مع بيان سلمان (رضوان الله تعالى عليه) احتاج المقام إلى تأييد من جبرئيل (عليه السلام)، ولو كان في نفس الشورى تحقيق للمنجزية والمعذرية لاستغنى المقام عن تأييد زائِد. إلَّا أن يُقال بأنَّ نزول جبرئيل (عليه السلام) لتأكيد تنجُّز رأي الشورى، لا لتأييده.
أمَّا (الفاء) في "فَنَزَلَ" فلِمُتَعَقَّبٍ مُقدَّرٍ موضوعه عدم لزوم المنجزية لرأي الشورى.
ثُمَّ إنَّ سماحة الشيخ المهتدي (حفظه الله تعالى) نقل عن سماحة الشيخ فاضل الصفَّار (دام عِزُه)، رئيًا في تفسير آية (وَشَاوِرۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ)، قال:
"إذا كان هذا ما يرتبط برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن أخْذ آراء الناس واسترضائهم دلّ على وجوب الشورىٰ على الفقيه أو المنصوب من قِبَله بالأولويّة القطعيّة خصوصًا وأنّ فوائدها لغير المعصوم جمّة ومِن أهمّها الإيصال إلى المطلوب في تشخيص المصالح والأهم من الأغراض في الأصل وفي التطبيق. وبذلك يظهر أنه حتى على القول باستحباب مشاورته (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ذهب إليه جمعٌ لمكان العصمة فيه فإنه ينبغي القول بإلزاميّة نتيجة الشورىٰ دفعًا للمحاذير المذكورة".
لم تظهر للنظر القاصر الجهة التي أُفيدَ منها الوجوب، فغاية من يُفَاد من قياس الأولوية تأكُّد الشورى على غير المعصوم، وهذا ما قامت عليه السيرة كما أسلفنا، ولا كلام فيه، بل قد يُقال بوجوب الشورى طريقيًا على الحاكِم فيما إذا تعلَّق الأمر بالخطير ممَّا يرتبط بمصير الأمَّة، ولكن لا دليل على تعيُّنها في الفقهاء المراجع، بل ولا وجه للقول بكون حصرها فيهم شكلًا من أشكال الشورى إلَّا بإثبات فقاهتهم واجتهادهم وأعلميتهم في مقومات وشئون الدولة، وما دون ذلك فإنَّ الشورى جارية في دوائر الاختصاص والخبرة، وهو جريان عقلائي يُقابِله الاستبداد وما يُعبَّر عنه اصطلاحًا بالدكتاتورية.
من ذلك يظهر أنَّ نظرية الشورى التي يطرحها سماحة الشيخ المهتدي (حفظه الله تعالى) لا تُعارِضُ من النظريات الأخرى في الحكم غيرَ الاستبداد، وإلَّا فهي متحقِّقةٌ في نظريات الحُكم، وإنَّما الاختلاف في الشكل، وقد مرَّ أنَّه لا موضوعية لشكل دون آخر.
الظاهر قصور الأدلة عن إثبات وجوب الشورى بين الفقهاء المراجع، إلَّا أنَّه قد يُفهم من بحوث (شورى الفقهاء المراجع) تعيُّنها فيهم كونهم المصداق الأتم، إلَّا أنَّ هذا أيضًا غير تام؛ والوجه في ذلك أنَّ الفقيه إمَّا أن يقتصر في علمه على استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، أو أن يتعدَّى مَلَكَةَ الاستنباط إلى الإحاطة بِمَا يدخل في قوام شئون الدولة والأمَّة، فإن كان هذا هو المُمَيز له عن غيره من الفقهاء والمسوغ لدخوله مجلس الشورى، فولايته إذًا لا تستند إلى مجرَّد علم الحلال والحرام، بل لا تمام لها ما لم يُحط بمثل هذه العلوم، وهذا ما لم يقل به أحد!
نعم، يحتاج إلى الفقيه السياسيون والاقتصاديون والتربويون، وغيرُهم من المتخصصين في كافَّة العلوم لتصحيح مساراتهم، فلا يصدر عنهم غير الموافق لشرع الله تعالى، لا أن يكون الفقيهُ سياسيًا واقتصاديًا وتربويًا..
نعم، يحيط الفقيه بكُلِّيات العلوم لإحاطته بالآيات والروايات الشريفة، إلَّا أن التفصيل والتفريع والتطبيق فهذا يحتاج إلى تخصُّصٍ، ولذلك يستشير العلماءُ والفقهاءُ المختصين من السياسيين والاقتصاديين وغيرهم.. فتأمَّل.
أرجو أن يكون في ما تقدَّم الكفاية لاستثارة ما يحتاج البحثُ لاستثارته من قوى النظر.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمَّدٍ وآله الطاهرين.
...............................
السيد محمَّد ابن السيد علي العلوي
2 ذو الحجَّة 1441 للهجرة
البحرين المحروسة