مقدمة:
يتميَّز البحث في عنوان (الشعائر) بحساسية عالية؛ لارتباطه في الوجدان الشيعي بقضية الإمام الحسين (عليه السلام)، فلا يلتفت العامَّة إلى أعمية العنوان، بل قد يُستغرب الحديث في الشعائر إن لم يكن في خصوص الشعائر الحسينية.
إنَّ لهذه الحالة حضورها القوي في البحث العلمي بعد تشكُّل نوع من الاصطفافات في خصوص الشعائر الحسينية حتَّى أصبح الأمر لا يحتمل في التقديرات العامَّة غير أحد تصنيفين؛ فإمَّا مع توسعة العنوان ليشمل كلَّ ما يُسند إلى إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) عمومًا، وأمر الإمام الحسين (عليه السلام) على وجه الخصوص، وإلَّا فمع تضييقه لينحصر في خصوص ما رود فيه نصٌّ عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام). وأيُّ محاولة للتوفيق فهي في الغالب محكومة بالفشل!
أقْدَمَ سماحةُ الشيخ محمود الجمري على بحث (الشعائر) بروحية نقيَّة ونفسية صافية ونية صادقة، وهذا ما ظهر بوضوح في سهولة تناوله لمسائل البحث، ولو كان ذا نزعة اصطفافية أو ما شابه، لما تمكَّن من الاستمرار مُتَّزِنًا على طول مسار البحث وفي مختلف مراحله.
لذا، فإنَّ أوَّلَ ما نُسجِّلهُ للبحث المستوى العالي للموضوعية العلمية الذي فرضه الباحث بجدارة وتمكُّن.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ سماحة الشيخ محمود الجمري لم يكمل السنة الأولى بعد العشرين من عمره الذي نسأل الله تعالى أن يوفقه لبذله في التحصيل العلمي، وهذا ممَّا يرفع لنا بشارة خير لمستقبل علمي واعد إن شاء الله تعالى. فأوصيه ونفسي بتقوى الله تعالى والتواضع للعلم والتأني في تحصيله مع الكثير من الجدِّ والاجتهاد، والحذر كل الحذر من تضييع شيء من الوقت في فضول هذه الدنيا الدنية.
مدخل البحث:
أشار سماحة الشيخ إلى الجهات التي يمكن للباحث ان يتناول منها قضية الشعائر، وقد عبَّر عنها بالمضامير، وأشار إلى ثلاثة، أوَّلها المضمار الفقهي، ثُمَّ العقائدي، والمضمار النفسي والاجتماعي، وبيَّن أنَّ البحث معقود لتناول قضية الشعائر من الجهة الفقهية.
من بعد ذلك طرح رأسًا من رؤوس العلم، وهو البُعد التاريخي للمسألة، وأشار إلى أنَّه وعلى مدى ستَّة قرون تقريبًا لم تأخذ المسألة حقَّها في الوفاء بفصولها وأركانها، وذكر مقتبسات من إفادات متأخري المتأخرين والمعاصرين ليُثبِت الحدود التي تناولوا فيها مسألة الشعائر.
الشروع في البحث:
إنَّ ما يدعو للاهتمام ببحث مسألة (الشعائر) جهة التعظيم التي أكَّد عليها الكتاب العزيز بعد تكرار موضوعه في آيات من الكتاب
العزيز، هي:
1- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾
2- ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾
3- ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾
4- ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ﴾
أمَّا التعظيم فمن قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾
ثُمَّ بيَّن أنَّه للوقوف على دلالة هذه الآيات، سيُفَصِّل الكلام في ثلاث جهات، وخاتمة.
الجهة الأوّلى: في بيان الموضوع.
وفيها أربع مقدمات:
الأولى: في بيان الحقيقة اللغوية.
الثانية: في ثبوت الحقيقة الشرعية.
الثالثة: في توقيفية الشعائر.
الرابعة: في بيان أنّ الحُرمات مساوقةٌ إلى الشعائر
في كل من مقدمات الجهة الأولى حرص سماحة الشيخ على ذكر الأقوال ومداركها وما تستند إليه، وبيَّن الإيرادات التي قد ترد على بعضها، كما وأوضح ما يترتب عليها.
الجهة الثانية: في بيان متعلّق الحكم.
حاول الشيخ الجمري في هذه الجهة إبراز الاضطراب في كلمات الأعلام في خصوص المراد من التعظيم، ثُمَّ انتقل إلى محاولة تحديد
المفهوم من خلال تقرير مقدمات:
الأولى: في بيان الحقيقة اللغويّة للتعظيم.
الثانية: في ثبوت الارتكاز العرفيّ.
الثالثة: المقابلة بين مفهومي التعظيم والإهانة.
من خلال هذه المقدمات الثلاث انتهى إلى أنَّ التعظيم مرتبة زائدة على الاحترام المقابل للإهانة، وهو من الموضوعات العرفية التي لم يتصدَّ الشارع لتشخيصها وبيان حدودها إلَّا في أُطر خاصَّة.
الجهة الثالثة: في بيان الحكم.
وفيها أمران:
الأوَّل: في بيان حكم إهانة الشعائر الدينيّة.
بيَّن في هذا الأمر استنادهم إلى ادلة لُبيَّة وأخرى لفظية، أمَّا اللبيَّة فالإجماع والسيرة والضرورة الدينية وحكم العقل بقبح الاستحفاف بما هو محترم عند المولى. واللفظية آيات وروايات.
ظهرت قوَّة الرسوخ العلمي لسماحة الشيخ الباحث في تصديه بموضوعية تامَّة لمناقشة الادلة
الثاني: في بيان حكم تعظيم الشعائر.
وقد استندوا في ذلك إلى قوله تعالى ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.
بيَّن جهات الاستدلال بالآية الكريمة، صيغة ومادَّة، وما أورِد عليها وما أُجيبَ به.
ثُمَّ أنَّه ختم البحث بذكر بعض الفوائد المترتّبة، وهي أربع:
الفائدة الأولى: بناءً على توقيفيّة الشعائر
الفائدة الثانية: بناءً على القولِ بعدم التوقيفيّة
الفائدة الثالثة: بناءً على ثبوت توقيفيّة الشعائر وعدم إيكال تحديدها إلى العرف
الفائدة الرابعة: بما قد تقرّر في مباحث الأصول: جوازُ التخيير العقلي في تطبيق الطبيعة على الأفراد، فإنّ الأحكام الشرعيّة تتعلّق بالطبائع، لا بالأفراد.
....................................
أقول:
1- لم يخرج سماحة الشيخ محمود الجمري (دامت توفيقاته) عن حدود وسمت الموضوعية على الإطلاق، بل التزم جادَّتها بتجرُّد علمي تام.
2- نجد توفيقات الله تعالى لسماحة الشيخ الباحث في حُسن تسلسله وجودة ترتيبه ودقة عنوناته.
3- تمكَّن بقدرة فائقة من الإظهار الضمني للجهات الموضوعية الرائدة في اختلاف المباني بين الفقهاء الأعلام، دون أدنى حاجة لطرحها على أنَّها خلافات وأزمات.
4- بسط النتائج في الخاتمة ثمارًا علمية يانعة، كل منها بحسب مسقاها ومشربها.
5- أوصي ابننا البار سماحة الشيخ محمود ابن الشيخ صالح آل جواد الجمري (حفظه الله تعالى) بإعادة بحث المسألة بعد سنوات قادمة من التحصيل العلمي، وحينها سوف يقف على الفرق بين جودتين، جودة المرحلة التي يعيشها، وجودة المرحلة التي عن قريب يكون عليها إن شاء الله تعالى.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطاهرين.