بسم الرّحمن الرّحيم
الظواهر الفلكيّة في قصيدة [أحرم الحجّاج]
ذكر البلاغيّون أنّ ممّا يزيد في بلاغة النّص الاستشهاد أو التمثيل بما هو محسوس ومعاش في واقع المخاطب فتجدّ أنّ الجاهليّين في شعرهم أو نثرهم لا يحيدون في تصويراتهم عن الإبل والبادية والمقام والارتحال، فالإنسان ابن بيئته إذا ابتعد عنها توحّش واغترب، أمّا إذا اقترب منها فإنّه يطمئن ويستقر، وهذا ينعكس على ما يتلقّاه فإن كان قريبا منه انسجم معه وإلّا فتجد النّفور أوّل ما يواجه به ذلك المتلقّى، من هنا التفت البلاغيّون لهذا المعنى فإنّ بلوغ المراد وأخذه بتلابيب الأذهان يتكفّل بتحقيقه تقريبه بالواقع وتشبيهه بما هو متداول عند المخاطب.
وقد جسّد الأديب الفقيه الشّيخ حسن الدّمستانيّ رحمه الله هذه البلاغة في قصيدته الشهيرة أحرم الحجّاج فقد أكثر من التّشبيهات والتقريبات الفلكيّة؛ وأيّ شيء أقرب للإنسان من أحوال السّماء! لاسيّما وأنّ في العصور السّابقة كان اهتمامهم بالنّجوم وأحوالها يرتبط بمعايشهم وأحوالهم ارتباطا وثيقا، أمّا اليوم ومع بعدنا بنحو ما عن ذلك ممّا أضفى نوع إبهام على بعض مرادات الشّيخ الدّمستانيّ في قصيدة فحاولت جمع الموارد الّتي حوت نكات فلكيّة وعلّقت عليها موضحًا المعنى المراد قدر المستطاع، وأرجو بذلك أن يكون فهم المعنى أبلغ في وصول الجراحات المصاغة في تلك الأبيات إلى قلب المستمع فيوصله ذلك إلى الحرقة المرجوّة لمصيبة الإمام عليه السّلام، ومن الله التّوفيق، وأسأله أن يجعل ذلك محلّ تقرب لسيّد الشّهداء صلوات الله عليه إنّه حميد مجيد.
١| صبّت الدّنيا علينا حاصبًا من شرّها
جاء في كتاب الله عزّ وجلّ: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً}
وقد اتّفق اللغويّون في تفسير الحاصب هنا بأنّها الرّيح الّتي تحمل الحصباء وهي صغار الحصى، وقد يطلق على المطر المحمّل بالحصى والبَرد بأنّه الحاصب ولعلّه هو مراد الشّيخ رحمه الله من قوله (صبّت) فالانصباب يناسب الأمطار لا الرّياح، وهنا شبّه الشّيخ مصائب الأيام بالمطر المحمّل بما يؤذي ويؤلم حين تلقّيه.
٢| أظلم الأفق عليهم بقتام الكُرَب
قال أمير المؤمنين عليه السّلام كما في نهج البلاغة: «اتَّقُوا سَكَرَاتِ النِّعْمَةِ واحْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَةِ وتَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ»
والقتام هو الغبار الّذي إذا هبّ حجب الرّؤية، كالغبار الّذي يثور عند قيام الحرب، وقال ابن قتيبة الدينوري:
"وإذا كان في الجو قتام، خفيت كبار النجوم في رأى العين وتخاوصت. قال ذو الرمة: أقمت له سراه بمدلهمّ أمقّ إذا تخاوصت النجوم. يريد أنها تتخاوص كما يتخاوص الرجل، وذلك إذا غمض واحدة ونظر بالأخرى للقتام الحائل دونها"[1].
فشبّه الشّيخ هنا تلك الكرب الّتي نبّأهم بها مولانا الحسين عليه السّلام بالغبار الّذي حجبهم عن كل شيء سوى المصيبة الّتي تحلّ على سيّد الشّهداء صلوات الله عليه إذ يقول:
حِينَ نَبّا آلَه الغُرَّ بما قالَ النّبيّ
أَظْلَمَ الأُفقُ عليهِم بِقُتامِ الكُرَبِ
فَكَأَنْ لمْ يسْتَبينوا مَشرِقًا مِن مَغرِبِ
غَشِيَتْهُم ظُلماتُ الحُزنِ منْ أَجْلِ الحُسين
٣| وتهاوى أنجم الأبرار عن أبراجها
قال الله سبحانه: {وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ}
وقال تعالى في موضع آخر: {وَلَقَدْ جَعَلْنٰا فِي السَّمٰاءِ بُرُوجاً}
والبروج جمع كثرة للبرج كما أنّ الأبراج جمع قلّة له والبرج هو منزل ومسار الأفلاك السّماويّة فجعل الشّاعر أنصار الحسين عليه السّلام والشّهداء معه أنجمًا لها منازل في السماء وبقتلهم يتهاوون من تلك المنازل العالية.
ولكنّه يشير في بيت يأتي بأنّها مع تهاويها إلّا أنّه تهاوٍ مادّي يغيبها ثرى الغبراء وتُحجب عن النّاظر، أمّا في معناها وعالمها الخالد فهي أنجم طالعة في برج المجد، وكيف لا تكون كذلك وهي الصفوة المختارة من الله لسيّد الشّهداء عليه السّلام.
٤| بأبي أنجم سعدٍ في هبوط وصعود
طلعت في فلك المجد وغابت في اللحود
سعدت بالذبح والذّابح من بعض السّعود
كيف لا تسعد في حال اقتران بالحسين
ذكر الشّيخ في هذا المربع عدّة ظواهر فلكيّة تتعلّق بالنّجوم، وهي أنجم السّعد، وطلوع النّجوم وغيابها، واقتران النّجوم
أمّا الأوّل فهو مصطلح يطلق على أربعة نجوم الأوّل هو سعد السّعود، والثّاني سعد الذّابح والثّالث هو سعد بلع، والرّابع هو سعد الأخبية.
طلوع أحد هذه النّجوم أو غيابه يتعلّق بأحوال الطقس في فصل الشتاء فيشتدّ عند طلوع سعد الذّابح إلى أن يهدأ البرد وتطلع الشمس في سعد السعود.
وقد اختلف في أنّ هذه الأنجم هل هي طالع خير أم سوء عند العرب، والأوفق بالسّياق هنا أن يكون الشّاعر قد نحا منحى الخير فيها لذلك شبّه قتلى الحسين عليه السّلام بهذه الأنجم، ولعلّه لم يقصد الإشارة للخير فيها، بل يعني بها كيف أنّ الحسين عليه السّلام ساعة المعركة كان يرى منهم تغيّر الحال على قتلته لشدّة بأسهم وقوّتهم كما أنّ طلوع أحد أنجم السعد يغيّر حال الأجواء.
وقد أكّد الشّاعر توصيفه للأنصار بأنجم السّعد مستعينا بسعد الذابح إذ قال (والذّابح من بعض السّعود) وقد كتبنا الاحتمالات في مراده من هذا التّوصيف سابقا فتحسن المراجعة[2].
وأخيرا فقد ختم الشّيخ رحمه الله الأبيات بالاقتران وهي حالة في السماء تقاس على القمر غالبا، فيقال بأنّ كوكبا أو نجما يقترن اليوم مع القمر أي يكون على نفس خطّ الطّول في السماء، أو يطلعان من نفس المطلع، وهو من التّشبيهات الموفّقة في هذه القصيدة والّذي يحمل معانٍ كثيرة فإنّ الأصحاب بذلوا أنفسهم وتركوا ما تركوا من ملذّات الدّنيا وفتنها وشهواتها حتّى المُحَلَّلِ منها ليسروا خلف الحسين وليحاكوا مطلعه فنالوا بذلك السّعادة.
٥| بأبي أقمار تمًّ خُسِفت بين الرّماح
قال الله سبحانه: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ}
الخسوف ظاهرة يعرفها الجميع وهي عندما يحجب الله القمر عن الأنظار وعادة ما يكون عند اكتمال القمر فاستخدم الشّاعر هذه الصّورة في معنيين المعنى الأوّل كمال الشّهداء عليهم السّلام ثمّ بيان عظم ما جرى عليهم فشبهه بالخسف لكن ليس من الله سبحانه، بل من الرّماح الّتي وُجّهت لهم.
٦| وشموسًا من رؤوس في بروج من رماح
لازال الشّاعر يوصّف الشّهداء مفتديهم بأبيهم ويرجع إلى تلك البروج التّي ذكرها سابقا، ولكنّه هنا أبقى الشّهداء في بروجهم وبدلا من تشبيههم بالأنجم فقد شبّههم بالشّمس العالية، ولكنها ليست في برجها السّماويّ إنما هي شمس فوق الرّماح، تمثّل نورها في رؤوس قطعت فداءً للحسين عليه السّلام وذبًّا عن حرمه.
٧| مَا دَرَوا إذ خَرَّ عن ظهرِ الجوادِ السّابحِ
أحسينٌ خَرَّ أم برجُ السّماكِ الرّامحِ
أم هو البَدر وقد حَلَّ بسعد الذّابحِ
أم هو الشّمسُ وأين الشمس من نور الحسين
يوصّف الشّاعر هنا نور أبي عبد الله عليه السّلام، وأظنّ بأنّ معنى هذه الأبيات مأخوذ من رواية المقتل المفجع التّي رواها ابن طاووس فقد ناسبت الموضع والوصف؛ إذ يقول في المقتل: "روى هلال بن نافع (وهو غير نافع بن هلال الشّهيد مع الحسين عليهما السّلام) قال: إنّي لواقف مع أصحاب عمر بن سعد إذ صرخ صارخ: أبشر أيّها الأمير، فهذا شمر قد قتل الحسين عليه السلام.
قال: فخرجت بين الصفين، فوقفت عليه، فإنه ليوجد بنفسه، فوالله ما رأيت قتيلاً مضمخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيأته عن الفكر في قتله".
فتحيّر الشّيخ في وصف هذا النّور؛ فهل يشبهه ببرج السماك الرّامح وهو نجم ساطع مضيء يطلع في سماء الرّبيع، ولشدّة ضوءه رُصد نهارا بواسطة بعض التقنيّات، وكان أوّل نجم يرصد نهارا؟ أم يشبهه بالبدر المنير حين حلول سعد الذّابح فتغطيه سحابات المطر السّوداء الّتي تأتي مع سعد الذّابح؟ أم هو الشّمس بعينها التّي تضفي للقمر النور؟
والحال أنَّ كلّها لا يساوي شيئا إذا ما قيست مع الحسين عليه السّلام.
٨| أنْجُمٌ تهوي ولكن مَا تَهَاوتْ لِرُجومْ
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}
هنا يشبّه الشّاعر حُرَم الله بالأنجم المتساقطة واستعار لهم الصّورة القرآنية في رجم الشياطين بالنّجوم على نحو التّورية البلاغيّة إذ أنّ المعنى القريب هو الرّجم، ولكن استعمل رحمه الله المعنى البعيد وهو السقوط من السماء على هدف معيّن، فقد كان هدفها جسد الحسين عليه السّلام.
٩| وحقيقٌ بعد كسفِ الشّمسِ أنْ تبدوا النّجومْ
من جميل تصويرات الشّيخ رحمه الله ترابطها واتّساقها منذ أن بدأ في تعداد المصاب الّذي حلّ على العترة الطّاهرة، فهو لم يغادر نور الحسين عليه السّلام حتّى هوى صريعا وتساقطت عليه الهاشميات فيشبّه الحسين عليه السّلام هنا بالشّمس الّتي طالما أشرقت فمنع ضياؤها الأنجم عن البزوغ في السّماء فتظلّ مستترة في أشعتها إلّا أنّ الكسف إذا أصابها فحجبت أنوارها لم يبق مانعٌ يحجب تلك النّجوم.
ويواصل الشّاعر في وصف ذلك الكسوف، ولكنّه يترقّى إلى عمق ظاهرة الكسوف فيجعل سبب الاحتجاب بين الأرض والشمس أو القمر هو غشيان نور الحسين لكل مضيء تارة، وما حلّ من مصابٍ أثّر على خلق الله النّاطق وغير النّاطق تارة أخرى.
١٠| وبَرى الرأسَ وَعَلّاهُ على رمحٍ قويم
زَاهرًا يُشرِقُ نورًا كاسِفًا للقمرين
١١| شَمسُ أفْقِ الدِّين أضحت في كسوفٍ بالسيوف
وتوارت عن عيونِ النّاسِ في أرضِ الطُّفوف
فأصابَ الشّمسَ والبدرَ كسوفٌ وخسوف
لكن الأفقَ مضيءٌ بسنا رأسِ الحسين
١٢| أو محى الله ظلامًا بضياء النّيّرين
هذا آخر أبيات هذه القصيدة الخالدة فختمها الشّيخ بأوضح ما يعيشه كل كائن وينتظره كل يوم، فقرنه بسلامه على الآل الأطهار، وهو شروق الشمس لتمحي ليل الظّلمة، وبزوغ البدر حتّى يبدّد حلك الليل.
السيّد علي بن السيّد محمّد العلوي
صبيحة منسلخ ذي القعدة ١٤٤٤هـ
....................................
[1] الانواء في مواسم العرب، ابن قتيبة الدينوري، ص ٢٢٧
[2] - تفسيرات لـ(سعد الذَّابح) في ملحمة الدمستاني: https://www.ketabat.org/writings/411